فصل: فَصْلٌ: (الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ وَيُخَلِّي السَّمْعَ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين ***


فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ‏:‏ مَحَبَّةٌ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ، وَتُلْهِجُ اللِّسَانَ بِذِكْرِهِ‏.‏ وَتُعَلِّقَ الْقَلْبَ بِشُهُودِهِ‏.‏ وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الْآيَاتِ، وَالِارْتِيَاضِ بِالْمَقَامَاتِ‏.‏

هَذِهِ الدَّرَجَةُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهَا، بِاعْتِبَارِ سَبَبِهَا وَغَايَتِهَا‏.‏ فَإِنَّ سَبَبَ الْأُولَى‏:‏ مُطَالَعَةُ الْإِحْسَانِ وَالْمِنَّةِ‏.‏ وَسَبَبُ هَذِهِ‏:‏ مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ‏.‏ وَشُهُودُ مَعَانِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ‏.‏ وَحُصُولُ الْمَلَكَةِ فِي مَقَامَاتِ السُّلُوكِ، وَهُوَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ‏.‏ وَلِذَلِكَ كَانَتْ غَايَتُهَا أَعْلَى مِنْ غَايَةِ مَا قَبْلَهَا‏.‏

فَقَوْلُهُ ‏"‏ تَبْعَثُ عَلَى إِيثَارِ الْحَقِّ عَلَى غَيْرِهِ ‏"‏ أَيْ لِكَمَالِهَا وَقُوَّتِهَا فَإِنَّهَا تَقْتَضِي مِنَ الْمُحِبِّ أَنْ يَتْرُكَ لِأَجْلِ الْحَقِّ مَا سِوَاهُ، فَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَلَا يُؤْثِرُ غَيْرَهُ عَلَيْهِ‏.‏ وَيَجْعَلُ اللِّسَانَ لَهِجًا بِذِكْرِهِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِهِ‏.‏

‏"‏ وَتَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِشُهُودِهِ ‏"‏ لِفَرْطِ اسْتِيلَائِهِ عَلَى الْقَلْبِ‏.‏ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُشَاهِدُ غَيْرَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَهِيَ مَحَبَّةٌ تَظْهَرُ مِنْ مُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ إِثْبَاتَهَا أَوَّلًا‏.‏ وَمَعْرِفَتَهَا ثَانِيًا‏.‏ وَنَفْيَ التَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ عَنْ نُصُوصِهَا ثَالِثًا، وَنَفْيَ التَّمْثِيلِ وَالتَّكْيِيفِ عَنْ مَعَانِيهَا رَابِعًا‏.‏ فَلَا يَصِحُّ لَهُ مُطَالَعَةُ الصِّفَاتِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْمَحَبَّةِ الصَّحِيحَةِ إِلَّا بِهَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ‏.‏ وَكُلَّمَا أَكْثَرَ قَلْبُهُ مِنْ مُطَالَعَتِهَا، وَمَعْرِفَةِ مَعَانِيهَا‏:‏ ازْدَادَتْ مَحَبَّتُهُ لِلْمَوْصُوفِ بِهَا‏.‏ وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْجَهْمِيَّةُ- قُطَّاعُ طَرِيقِ الْمَحَبَّةِ- بَيْنَ الْمُحِبِّينَ وَبَيْنَهُمُ السَّيْفُ الْأَحْمَرُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَالنَّظَرُ إِلَى الْآيَاتِ ‏"‏ أَيْ نَظَرُ الْفِكْرِ وَالِاعْتِبَارِ إِلَى آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ‏.‏

وَفِي آيَاتِهِ الْمَسْمُوعَةِ‏.‏ وَكُلٌّ مِنْهُمَا دَاعٍ قَوِيٌّ إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ‏.‏ لِأَنَّهَا أَدِلَّةٌ عَلَى صِفَاتِ كَمَالِهِ، وَنُعُوتِ جَلَالِهِ، وَتَوْحِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَعَلَى حِكْمَتِهِ وَبِرِّهِ، وَإِحْسَانِهِ وَلُطْفِهِ، وَجُودِهِ وَكَرَمِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَسُبُوغِ نِعْمَتِهِ، فَإِدَامَةُ النَّظَرِ فِيهَا دَاعٍ- لَا مَحَالَةَ- إِلَى مَحَبَّتِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الِارْتِيَاضُ بِالْمَقَامَاتِ‏.‏ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ رِيَاضَةً وَمَلَكَةً فِي مَقَامَاتِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ‏:‏ كَانَتْ مَحَبَّتُهُ أَقْوَى‏.‏ لِأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ لَهُ أَتَمُّ‏.‏ وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا أَنْشَأَ فِي قَلْبِهِ مَحَبَّتَهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ مَحَبَّةٌ خَاطِفَةٌ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ دَرَجَاتُ الْمَحَبَّةِ‏:‏ مَحَبَّةٌ خَاطِفَةٌ‏.‏ تَقْطَعُ الْعِبَارَةَ‏.‏ وَتَدْفَعُ الْإِشَارَةَ‏.‏ وَلَا تَنْتَهِي بِالنُّعُوتِ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّهَا تَخْطِفُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ‏.‏ لِمَا يَبْدُو لَهُمْ مِنْ جَمَالِ مَحْبُوبِهِمْ‏.‏ وَيُشِيرُ الشَّيْخُ بِذَلِكَ إِلَى الْفَنَاءِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشُّهُودِ‏.‏ وَإِنَّ الْعِبَارَةَ تَنْقَطِعُ دُونَ حَقِيقَةِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَلَا تَبْلُغُهَا‏.‏ وَلَا تَصِلُّ إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ‏.‏ فَإِنَّهَا فَوْقَ الْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ‏.‏

وَحَقِيقَتُهَا عِنْدَهُمْ‏:‏ فَنَاءُ الْحُدُوثِ فِي الْقِدَمِ، وَاضْمِحْلَالُ الرُّسُومِ فِي نُورِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي تَظْهَرُ لِقُلُوبِ الْمُحِبِّينَ‏.‏ فَتَمْلِكُ عَلَيْهَا الْعِبَارَةَ وَالْإِشَارَةَ وَالصِّفَةَ‏.‏ فَلَا يَقْدِرُ الْمُحِبُّ أَنْ يُعَبِّرَ عَمَّا يَجِدَهُ لِأَنَّ وَارِدَهَا قَدْ خَطَفَ فَهْمَهُ‏.‏ وَالْعِبَارَةُ تَابِعَةٌ لِلْفَهْمِ‏.‏ فَلَا يَقْدِرُ الْمُحِبُّ أَنْ يُشِيرَ إِلَيْهِ إِشَارَةً تَامَّةً‏.‏

وَالْعِبَارَةُ عِنْدَهُمْ‏:‏ تَحْتَ الْإِشَارَةِ وَأَبْعَدَ مِنْهَا‏.‏ وَلِذَلِكَ جُعِلَ حَظَّهَا الْقَطْعُ‏.‏ وَحَظَّ الْإِشَارَةِ الدَّفْعُ‏.‏ فَإِنَّ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ يَقْبَلُ الْعِبَارَةَ‏.‏ وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ لَا تَقْبَلُ إِشَارَةً مَا‏.‏ وَلَا تَقْبَلُ عِبَارَةً‏.‏

وَعِنْدَهُمْ‏:‏ إِنَّمَا تَمْتَنِعُ الْعِبَارَةُ وَالْإِشَارَةُ فِي مَقَامِ التَّوْحِيدِ، حَيْثُ لَا يَبْقَى لِلْمَحَبَّةِ رَسْمٌ، وَلَا اسْمٌ، وَلَا إِشَارَةٌ، وَهُوَ الْغَايَةُ عِنْدَهُمْ كَمَا سَيَأْتِي‏.‏

وَالصَّوَابُ‏:‏ أَنَّ تَوْحِيدَ الْمَحَبَّةِ أَكْمَلُ مِنْ هَذَا التَّوْحِيدِ الَّذِي يُشِيرُونَ إِلَيْهِ، وَأَعْلَى مَقَامًا، وَأَجَلَّ مَشْهَدًا‏.‏ وَهُوَ مَقَامُ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَخَوَاصُّ الْمُقَرَّبِينَ‏.‏

وَأَمَّا تَوْحِيدُ الْفَنَاءِ‏:‏ فَدُونَهُ بِكَثِيرٍ‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ مَقَامَاتِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏.‏ فَإِنَّ تَوْحِيدَهُمْ تَوْحِيدُ بَقَاءٍ وَمَحَبَّةٍ‏.‏ لَا تَوْحِيدَ فَنَاءٍ وَغَيْبَةٍ، وَسُكْرٍ وَاصْطِلَامٍ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ الْمُحِبُّ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ‏.‏ لَمْ يَخْلُصْ إِلَى مَقَامِ تَوْحِيدِ الْفَنَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏ بَلْ رُسُومُ الْمَحَبَّةِ مَعَهُ بَعْدُ، جَعَلُوا الْمَحَبَّةَ هِيَ الْعَقَبَةَ الَّتِي يَنْحَدِرُ مِنْهَا إِلَى أَوْدِيَةِ الْفَنَاءِ‏.‏ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَالصَّوَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ، عِنْدَ أَرْبَابِ التَّحْقِيقِ وَالْبَصَائِرِ‏:‏ أَنَّ لِسَانَ الْمَحَبَّةِ أَتَمُّ، وَمَقَامَهَا أَكْمَلُ، وَحَالَهَا أَشْرَفُ، وَصَاحِبَهَا مِنْ أَهْلِ الصَّحْوِ بَعْدَ السُّكْرِ، وَالتَّمْكِينِ بَعْدَ التَّلْوِينِ، وَالْبَقَاءِ بَعْدَ الْفَنَاءِ‏.‏ وَلِسَانُهُ نَائِبٌ عَنْ كُلِّ لِسَانٍ‏.‏ وَبَيَانُهُ وَافٍ بِكُلِّ ذَوْقٍ‏.‏ وَمَقَامُهُ أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَقَامٍ‏.‏ فَهُوَ أَمِينٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُونَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْمَقَامَاتِ‏.‏ لِأَنَّ مَقَامَهُ أَمِيرٌ عَلَى الْمَقَامَاتِ كُلِّهَا‏.‏

أَمِينٌ أَمِينٌ عَلَيْهِ النَّدَى *** جَوَادٌ بَخِيلٌ بِأَنْ لَا يَجُودَا

وَأَمَّا كَوْنُ نُعُوتِ الْمَحَبَّةِ لَا تَتَنَاهَى‏:‏ فَلِأَنَّ لَهَا فِي كُلِّ مَقَامٍ نِسْبَةً وَتَعَلُّقًا بِهِ‏.‏ وَهِيَ رُوحُ كُلِّ مَقَامٍ، وَالْحَامِلَةُ لَهُ‏.‏ وَأَقْدَامُ السَّالِكِينَ إِنَّمَا تَتَحَرَّكُ بِهَا‏.‏ فَلَهَا تَعَلَّقُ بِكُلِّ قَدَمٍ، وَحَالٍ وَمَقَامٍ‏.‏ فَلَا تَتَنَاهَى نُعُوتُهَا أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏مَدَارُ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ‏]‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ‏:‏ هِيَ قُطْبُ هَذَا الشَّأْنِ‏.‏ وَمَا دُونَهَا مَحَابٌّ، نَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ، وَادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ‏.‏ وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ مَدَارَ شَأْنِ السَّالِكِينَ الْمُسَافِرِينَ إِلَى اللَّهِ‏:‏ عَلَى هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ‏.‏ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لِخُلُوصِهَا مِنَ الشَّوَائِبِ وَالْعِلَلِ وَالْأَغْرَاضِ‏.‏ وَصَاحِبُهَا مُرَادٌ وَمَجْذُوبٌ وَمَطْلُوبٌ، وَمَا دُونَهَا مِنَ الْمَحَابِّ‏:‏ فَصَاحِبُهَا بَاقٍ مَعَ إِرَادَتِهِ مِنْ مَحْبُوبِهِ‏.‏ أَمَّا مَحَبَّةُ الْإِحْسَانِ وَالْأَفْعَالِ‏:‏ فَظَاهِرٌ‏.‏

وَأَمَّا مَحَبَّةُ الصِّفَاتِ مَنْزِلَتُهَا‏:‏ فَصَاحِبُهَا مَعَ لَذَّةِ رُوحِهِ وَنَعِيمِ قَلْبِهِ بِمُطَالَعَةِ الصِّفَاتِ‏.‏ فَإِنَّ لَذَّةَ الْأَرْوَاحِ وَالْعُقُولِ لَا مَحَالَةَ فِي مُطَالَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَنُعُوتِ الْجَمَالِ‏.‏

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ الثَّالِثَةِ‏:‏ قَدِ ارْتَقَى عَنْ هَاتَيْنِ الدَّرَجَتَيْنِ‏.‏ وَأُخِذَ مِنْهُ، وَعُيِّبَ عَنْهُ‏.‏ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِهِ فِي كَوْنِ الْفَنَاءِ غَايَةً‏.‏ وَقَدْ عَرَفْتَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَنَادَتْ عَلَيْهَا الْأَلْسُنُ ‏"‏ أَيْ وَصَفَتْهَا الْأَلْسُنُ‏.‏ فَأَكْثَرَتْ صِفَاتِهَا‏.‏ وَتَمَكَّنَتْ مِنَ التَّعْبِيرِ عَنْهَا‏.‏

وَ ‏"‏ ادَّعَتْهَا الْخَلِيقَةُ ‏"‏ بِخِلَافِ الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا وُصُولَ لِأَحَدٍ إِلَيْهَا إِلَّا بِالْحَقِّ تَعَالَى‏.‏ فَهِيَ غَيْرُ كَسْبِيَّةٍ‏.‏ وَلَا تُنَالُ بِسَبَبٍ‏.‏ فَلَا يُمْكِنُ فِيهَا الدَّعْوَى‏.‏ فَإِنَّ شَأْنَهَا أَجَلُّ مَنْ ذَلِكَ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَأَوْجَبَتْهَا الْعُقُولُ ‏"‏ يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِوُجُوبِهَا‏.‏ وَهُوَ كَمَا قَالَ‏.‏ فَإِنَّ الْعُقُولَ تَحْكُمُ بِوُجُوبِ تَقْدِيمِ مَحَبَّةِ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ‏.‏

وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُحَكِّمْ عَقْلَهُ بِهَذَا‏:‏ فَلَا تَعْبَأْ بِعَقْلِهِ‏.‏ فَإِنَّ الْعَقْلَ وَالْفِطْرَةَ وَالشِّرْعَةَ وَالِاعْتِبَارَ، وَالنَّظَرَ‏.‏ تَدْعُو كُلَّهَا إِلَى مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ‏.‏ بَلْ إِلَى تَوْحِيدِهِ فِي الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَإِنَّمَا جَاءَتِ الرُّسُلُ بِتَقْرِيرِ مَا فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ‏.‏

كَمَا قِيلَ‏:‏

هَبِ الرُّسُلَ لَمْ تَأْتِ مِنْ عِنْدِهِ *** وَلَا أَخْبَرَتْ عَنْ جَمَالِ الْحَبِيبِ

أَلَيْسَ مِنَ الْوَاجِبِ الْمُسْتَـ *** حَقِّ مَحَبَّتُهُ فِي اللِّقَا وَالْمَغِيبِ

فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَقْلُهُ آمِرًا *** بِذَا‏.‏ مَا لَهُ فِي الْحِجَى مِنْ نَصِيبِ

وَإِنَّ الْعُقُولَ لَتَدْعُو إِلَى *** مَحَبَّةِ فَاطِرِهَا مِنْ قَرِيبِ

أَلَيْسَتْ عَلَى ذَاكَ مَجْبُولَةً *** وَمَفْطُورَةً لَا بِكَسْبِ غَرِيبِ

أَلَيْسَ الْجَمَالُ حَبِيبَ الْقُلُوبِ *** لِذَاتِ الْجَمَالِ، وَذَاتِ الْقُلُوبِ

أَلَيْسَ جَمِيلًا يُحِبُّ الْجَمَالَ *** تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ نَسِيبِ

أَمَا بَعْدَ ذَلِكَ إِحْسَانُهُ *** بِدَاعٍ إِلَيْهِ لِقَلْبِ الْمُنِيبِ

أَلَيْسَ إِذَا كَمُلَا أَوْجَبَا *** كَمَالَ الْمَحَبَّةِ لِلْمُسْتَجِيبِ

فَمَنْ ذَا يُشَابِهُ أَوْصَافَهُ *** تَعَالَى إِلَهُ الْوَرَى عَنْ ضَرِيبِ

وَمَنْ ذَا يُكَافِئُ إِحْسَانَهُ *** فَيَأْلَهُهُ قَلْبُ عَبْدٍ مُنِيبِ

وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ *** إِلَى كُلِّ ذِي الْخُلُقِ أَوْلَى حَبِيبِ

فَيَا مُنْكِرًا ذَاكَ وَاللَّهِ أَنْـ *** ـتَ عَيْنُ الطَّرِيدِ وَعَيْنُ الْحَرِيبِ

وَيَا مَنْ يُحِبُّ سِوَاهُ كَمِثْـ *** ـلِ مَحَبَّتِهِ أَنْتَ عَبْدُ الصَّلِيبِ

وَيَا مَنْ يُوَحِّدُ مَحْبُوبَهُ *** وَيُرْضِيهِ فِي مَشْهَدٍ أَوْ مَغِيبِ

وَلَوْ سَخِطَ الْخَلْقُ فِي وَجْهِهِ *** لَقَالَ هَوَانًا وَلَوْ بِالنَّسِيبِ

حَظَيْتَ وَخَابُوا فَلَا تَبْتَئِسْ *** بِكَيْدِ الْعَدُوِّ وَهَجْرِ الرَّقِيبِ

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْغَيْرَةِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏"‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏ مَنْزِلَةُ الْغَيْرَةِ‏.‏

حَقِيقَتُهَا‏:‏ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏.‏ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ، وَمِنْ غَيْرَتِهِ‏:‏ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏.‏ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ‏.‏ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ‏.‏ وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ‏.‏ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ‏:‏ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏.‏ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏.‏ قَالَ إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ‏:‏ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعِدٍ‏؟‏‏!‏ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي‏.‏

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي الْغَيْرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا‏}‏‏.‏

قَالَ السَّرِيُّ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ أَتَدْرُونَ مَا هَذَا الْحِجَابُ‏؟‏ حِجَابُ الْغَيْرَةِ‏.‏ وَلَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ‏.‏ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلِ الْكُفَّارَ أَهْلًا لِفَهْمِ كَلَامِهِ، وَلَا أَهْلًا لِمَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ‏.‏ فَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِهِ وَكَلَامِهِ وَتَوْحِيدِهِ حِجَابًا مَسْتُورًا عَنِ الْعُيُونِ، غَيْرَةً عَلَيْهِ أَنْ يَنَالَهُ مَنْ لَيْسَ أَهْلًا بِهِ‏.‏

وَالْغَيْرَةُ مَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ عَظِيمَةٌ جِدًّا، جَلِيلَةُ الْمِقْدَارِ‏.‏ وَلَكِنَّ الصُّوفِيَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ مَنْ قَلَبَ مَوْضُوعَهَا‏.‏ وَذَهَبَ بِهَا مَذْهَبًا بَاطِلًا‏.‏ سَمَّاهُ غَيْرَةً فَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا‏.‏ وَلُبِّسَ عَلَيْهِ أَعْظَمُ تَلْبِيسٍ‏.‏ كَمَا سَتَرَاهُ‏.‏

وَالْغَيْرَةُ نَوْعَانِ‏:‏ غَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْءِ‏.‏ وَغَيْرَةٌ عَلَى الشَّيْءِ‏.‏

وَالْغَيْرَةُ مِنَ الشَّيْءِ‏:‏ هِيَ كَرَاهَةُ مُزَاحَمَتِهِ وَمُشَارَكَتِهِ لَكَ فِي مَحْبُوبِكَ‏.‏

وَالْغَيْرَةُ عَلَى الشَّيْءِ‏:‏ هِيَ شِدَّةُ حِرْصِكَ عَلَى الْمَحْبُوبِ أَنْ يَفُوزَ بِهِ غَيْرُكَ دُونَكَ أَوْ يُشَارِكَكَ فِي الْفَوْزِ بِهِ‏.‏

وَالْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ‏:‏ غَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى نَفْسِهِ، كَغَيْرَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى قَلْبِهِ، وَمِنْ تَفْرِقَتِهِ عَلَى جَمْعِيَّتِهِ، وَمِنْ إِعْرَاضِهِ عَلَى إِقْبَالِهِ، وَمِنْ صِفَاتِهِ الْمَذْمُومَةِ عَلَى صِفَاتِهِ الْمَمْدُوحَةِ‏.‏

وَهَذِهِ الْغَيْرَةُ خَاصِّيَّةُ النَّفْسِ الشَّرِيفَةِ الزَّكِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ‏.‏ وَمَا لِلنَّفْسِ الدَّنِيَّةِ الْمَهِينَةِ فِيهَا نَصِيبٌ‏.‏ وَعَلَى قَدْرِ شَرَفِ النَّفْسِ وَعُلُوِّ هِمَّتِهَا تَكُونُ هَذِهِ الْغَيْرَةُ‏.‏

ثُمَّ الْغَيْرَةُ أَيْضًا نَوْعَانِ‏:‏ غَيْرَةُ الْحَقِّ تَعَالَى عَلَى عَبْدِهِ، وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ لَا عَلَيْهِ‏.‏ فَأَمَّا غَيْرَةُ الرَّبِّ عَلَى عَبْدِهِ‏:‏ فَهِيَ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لِلْخَلْقِ عَبْدًا‏.‏ بَلْ يَتَّخِذُهُ لِنَفْسِهِ عَبْدًا‏.‏ فَلَا يَجْعَلُ لَهُ فِيهِ شُرَكَاءَ مُتَشَاكِسِينَ‏.‏ بَلْ يُفْرِدُهُ لِنَفْسِهِ‏.‏ وَيَضِنُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏ وَهَذِهِ أَعْلَى الْغَيْرَتَيْنِ‏.‏

وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، نَوْعَانِ أَيْضًا‏:‏ غَيْرَةٌ مِنْ نَفْسِهِ‏.‏ وَغَيْرَةٌ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏ فَالَّتِي مِنْ نَفْسِهِ‏:‏ أَنْ لَا يَجْعَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَحْوَالِهِ وَأَوْقَاتِهِ وَأَنْفَاسِهِ لِغَيْرِ رَبِّهِ، وَالَّتِي مِنْ غَيْرِهِ‏:‏ أَنْ يَغْضَبَ لِمَحَارِمِهِ إِذَا انْتَهَكَهَا الْمُنْتَهِكُونَ‏.‏ وَلِحُقُوقِهِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهَا الْمُتَهَاوِنُونَ‏.‏

وَأَمَّا الْغَيْرَةُ عَلَى اللَّهِ‏:‏ فَأَعْظَمُ الْجَهْلِ وَأَبْطَلُ الْبَاطِلِ‏.‏ وَصَاحِبُهَا مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جَهْلًا‏.‏ وَرُبَّمَا أَدَّتْ بِصَاحِبِهَا إِلَى مُعَادَاتِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ‏.‏ وَإِلَى انْسِلَاخِهِ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ‏.‏

وَرُبَّمَا كَانَ صَاحِبُهَا شَرًّا عَلَى السَّالِكِينَ إِلَى اللَّهِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ‏.‏ بَلْ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ السَّالِكِينَ حَقِيقَةً‏.‏ وَأَخْرَجَ قَطْعَ الطَّرِيقِ فِي قَالَبِ الْغَيْرَةِ‏.‏ وَأَيْنَ هَذَا مِنَ الْغَيْرَةِ لِلَّهِ‏؟‏ الَّتِي تُوجِبُ تَعْظِيمَ حُقُوقِهِ، وَتَصْفِيَةَ أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ لِلَّهِ‏؟‏ فَالْعَارِفُ يَغَارُ لِلَّهِ‏.‏ وَالْجَاهِلُ يَغَارُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ فَلَا يُقَالُ‏:‏ أَنَا أَغَارُ عَلَى اللَّهِ‏.‏ وَلَكِنْ أَنَا أَغَارُ لِلَّهِ‏.‏

وَغَيْرَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ‏:‏ أَهَمُّ مِنْ غَيْرَتِهِ مِنْ غَيْرِهِ‏.‏ فَإِنَّكَ إِذَا غِرْتَ مِنْ نَفْسِكَ صَحَّتْ لَكَ غَيْرَتُكَ لِلَّهِ مِنْ غَيْرِكَ، وَإِذَا غِرْتَ لَهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَلَمْ تَغِرْ مِنْ نَفْسِكَ‏:‏ فَالْغَيْرَةُ مَدْخُولَةٌ مَعْلُولَةٌ وَلَا بُدَّ‏.‏ فَتَأَمَّلْهَا وَحَقِّقِ النَّظَرَ فِيهَا‏.‏

فَلْيَتَأَمَّلِ السَّالِكُ اللَّبِيبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، الَّذِي زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامُ كَثِيرٍ مِنَ السَّالِكِينَ‏.‏ وَاللَّهُ الْهَادِي وَالْمُوَفِّقُ الْمُثَبِّتُ‏.‏

كَمَا حُكِيَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ مَشْهُورِي الصُّوفِيَّةِ، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَا أَسْتَرِيحُ حَتَّى لَا أَرَى مَنْ يَذْكُرُ اللَّهَ‏.‏ يَعْنِي غَيْرَةً عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْغَفْلَةِ وَذِكْرِهِمْ‏.‏

وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا يُعَدُّ مِنْ مَنَاقِبِهِ وَمَحَاسِنِهِ‏.‏

وَغَايَةُ هَذَا‏:‏ أَنْ يُعْذَرَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ‏.‏ وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ الشَّطَحَاتِ‏.‏ وَذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الْغَفْلَةِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ خَيْرٌ مِنْ نِسْيَانِهِ بِالْكُلِّيَّةِ‏.‏ وَالْأَلْسُنُ مَتَى تَرَكَتْ ذِكْرَ اللَّهِ- الَّذِي هُوَ مَحْبُوبُهَا- اشْتَغَلَتْ بِذِكْرِ مَا يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ عَلَيْهِ‏.‏ فَأَيُّ رَاحَةٍ لِلْعَارِفِ فِي هَذَا‏؟‏ وَهَلْ هُوَ إِلَّا أَشَقُّ عَلَيْهِ، وَأَكْرَهُ إِلَيْهِ‏؟‏

وَقَوْلٌ آخَرُ‏:‏ لَا أُحِبُّ أَنْ أَرَى اللَّهَ وَلَا أَنْظُرَ إِلَيْهِ‏.‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ كَيْفَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ غَيْرَةً عَلَيْهِ مِنْ نَظَرِ مِثْلِي‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْغَيْرَةِ الْقَبِيحَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى جَهْلِ صَاحِبِهَا، مَعَ أَنَّهُ فِي خِفَارَةِ ذُلِّهِ وَتَوَاضُعِهِ وَانْكِسَارِهِ وَاحْتِقَارِهِ لِنَفْسِهِ‏.‏

وَمِنْ هَذَا مَا يُحْكَى عَنِ الشِّبْلِيِّ‏:‏ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ ابْنُهُ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَنَوَّرَ لِحْيَتَهُ، حَتَّى أَذْهَبَ شَعْرَهَا كُلَّهُ‏.‏ فَكُلُّ مَنْ أَتَاهُ مُعَزِّيًا، قَالَ‏:‏ إِيشْ هَذَا يَا أَبَا بَكْرٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ وَافَقْتُ أَهْلِي فِي قَطْعِ شُعُورِهِمْ‏.‏ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ‏:‏ أَخْبِرْنِي لِمَ فَعَلْتَ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ عَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُعَزُّونَنِي عَلَى الْغَفْلَةِ وَيَقُولُونَ‏:‏ آجَرَكَ اللَّهُ‏.‏ فَفَدَيْتُ ذِكْرَهُمْ لِلَّهِ عَلَى الْغَفْلَةِ بِلِحْيَتِي‏.‏

فَانْظُرْ إِلَى هَذِهِ الْغَيْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ الْقَبِيحَةِ، الَّتِي تَضَمَّنَتْ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ‏:‏ حَلْقِ الشِّعْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-‏:‏ لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ أَيْ حَلَقَ شَعْرَهُ، وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالنَّدْبِ وَالنِّيَاحَةِ‏.‏ وَخَرَقَ ثِيَابَهُ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ حَلْقُ اللِّحْيَةِ، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِعْفَائِهَا وَتَوْفِيرِهَا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ مَنْعُ إِخْوَانِهِ مِنْ تَعْزِيَتِهِ وَنَيْلِ ثَوَابِهَا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ كَرَاهَتُهُ لِجَرَيَانِ ذِكْرِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ بِالْغَفْلَةِ‏.‏ وَذَلِكَ خَيْرٌ بِلَا شَكٍّ مِنْ تَرْكِ ذِكْرِهِ‏.‏

فَغَايَةُ صَاحِبِ هَذَا‏:‏ أَنْ تُغْفَرَ لَهُ هَذِهِ الذُّنُوبُ وَيُعْفَى عَنْهُ‏.‏ وَأَمَّا أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي مَنَاقِبِهِ، وَفِي الْغَيْرَةِ الْمَحْمُودَةِ فَسُبْحَانُكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏.‏

وَمِنْ هَذَا‏:‏ مَا ذُكِرَ عَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ النُّورِيِّ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُؤَذِّنُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ طَعَنَهُ وَسْمُ الْمَوْتِ‏.‏

وَسَمِعَ كَلْبًا يَنْبَحُ، فَقَالَ‏:‏ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ‏.‏ فَقَالُوا لَهُ‏:‏ هَذَا تَرْكٌ لِلدِّينِ‏.‏

وَصَدَقُوا وَاللَّهِ، يَقُولُ لِلْمُؤَذِّنِ فِي تَشَهُّدِهِ‏:‏ طَعَنَهُ‏.‏ وَسْمُ الْمَوْتِ‏.‏ وَيُلَبِّي نُبَاحَ الْكَلْبِ‏؟‏

فَقَالَ‏:‏ أَمَّا ذَاكَ فَكَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَنْ رَأْسِ الْغَفْلَةِ‏.‏ وَأَمَّا الْكَلْبُ‏:‏ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ‏}‏‏.‏

فَيَالِلَّهِ‏!‏‏!‏ مَاذَا تَرَى رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوَاجِهُ هَذَا الْقَائِلِ لَوْ رَآهُ يَقُولُ ذَلِكَ، أَوْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَوْ مَنْ عَدَّ ذَلِكَ فِي الْمَنَاقِبِ وَالْمَحَاسِنِ‏؟‏‏!‏‏.‏

وَسَمِعَ الشِّبْلِيُّ رَجُلًا يَقُولُ‏:‏ جَلَّ اللَّهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ أُحِبُّ أَنْ تُجِلَّهُ عَنْ هَذَا‏.‏

وَأَذَّنَ مَرَّةً‏.‏ فَلَمَّا بَلَغَ الشَّهَادَتَيْنِ، قَالَ‏:‏ لَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَنِي مَا ذَكَرْتُ مَعَكَ غَيْرَكَ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ الْجُهَّالِ مِنَ الْقَوْمِ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مِنْ أَصْلِ الْقَلْبِ، وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنَ الْقُرْطِ‏.‏

وَنَحْنُ نَقُولُ‏:‏ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، مِنْ تَمَامِ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ فَالْكَلِمَتَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ أَصْلِ الْقَلْبِ، مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ‏.‏ لَا تَتِمُّ إِحْدَاهُمَا إِلَّا بِالْأُخْرَى‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الْغَيْرَةُ سُقُوطُ الِاحْتِمَالِ ضَنًّا وَالضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ‏:‏ بَابُ الْغَيْرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- حَاكِيًا عَنْ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- ‏{‏رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ‏}‏‏.‏

وَوَجْهُ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ‏:‏ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحِبُّ الْخَيْلَ‏.‏ فَشَغَلَهُ اسْتِحْسَانُهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا- لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ- عَنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ‏.‏ فَلَحِقَتْهُ الْغَيْرَةُ لِلَّهِ حَقِيقَتُهَا مِنَ الْخَيْلِ، إِذِ اسْتَغْرَقَهُ اسْتِحْسَانُهَا، وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا عَنْ خِدْمَةِ مَوْلَاهُ وَحَقِّهِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ يَضْرِبُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِالسَّيْفِ غَيْرَةً لِلَّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ الْغَيْرَةُ‏:‏ سُقُوطُ الِاحْتِمَالِ ضَنًّا، وَالضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً‏.‏

أَيْ عَجْزُ الْغَيُورِ عَنِ احْتِمَالِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ مَحْبُوبِهِ، وَيَحْجُبُهُ عَنْهُ ضَنًّا بِهِ- أَيْ بُخْلًا بِهِ- أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ بِغَيْرِهِ‏.‏ وَهَذَا الْبُخْلُ‏:‏ هُوَ مَحْضُ الْكَرَمِ عِنْدَ الْمُحِبِّينَ الصَّادِقِينَ‏.‏

وَأَمَّا الضِّيقُ عَنِ الصَّبْرِ نَفَاسَةً فَهُوَ أَنْ يَضِيقَ ذَرْعُهُ بِالصَّبْرِ عَنْ مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَهَذَا هُوَ الصَّبْرُ الَّذِي لَا يُذَمُّ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّبْرِ سِوَاهُ، أَوْ مَا كَانَ مِنْ وَسِيلَتِهِ‏.‏ وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذَا الضِّيقِ‏:‏ مُغَالَاتُهُ بِمَحْبُوبِهِ‏.‏ وَهِيَ النَّفَاسَةُ‏.‏ فَإِنَّهُ- لِمُنَافَسَتِهِ وَرَغْبَتِهِ- لَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَنْهُ‏.‏

وَالْمُنَافَسَةُ هِيَ كَمَالُ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ مِنْهُ‏:‏ إِنْ لَمْ يُمْدَحْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ، وَالْمُسَابَقَةُ إِلَيْهِ إِنْ مُدِحَتْ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ‏.‏ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ‏}‏ وَبَيْنَ الْمُنَافَسَةِ وَالْغِبْطَةِ جَمْعٌ وَفَرْقٌ، وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَسَدِ أَيْضًا جَمْعٌ وَفَرْقٌ‏.‏

فَالْمُنَافَسَةُ تَتَضَمَّنُ مُسَابَقَةً وَاجْتِهَادًا وَحِرْصًا‏.‏ وَالْحَسَدُ‏:‏ يَدُلُّ عَلَى مَهَانَةِ الْحَاسِدِ وَعَجْزِهِ، وَإِلَّا فَنَافِسْ مَنْ حَسَدْتَهُ‏.‏ فَذَلِكَ أَنْفَعُ لَكَ مِنْ حَسَدِهِ، كَمَا قِيلَ‏:‏

إِذَا أَعْجَبَتْكَ خِلَالُ امْرِئٍ *** فَكُنْهُ يَكُنْ مِنْكَ مَا يُعْجِبُكْ

فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَا *** تِ إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ

وَالْغِبْطَةُ تَتَضَمَّنُ نَوْعَ تَعَجُّبٍ وَفَرَحٍ لِلْمَغْبُوطِ وَاسْتِحْسَانٍ لِحَالِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْغَيْرَةِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ غَيْرَةُ الْعَابِدِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهِيَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْغَيْرَةُ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ غَيْرَةُ الْعَابِدِ عَلَى ضَائِعٍ يَسْتَرِدُّ ضَيَاعَهُ الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْغَيْرَةِ‏.‏ وَيَسْتَدْرِكُ فَوَاتَهُ، وَيَتَدَارَكُ قُوَاهُ‏.‏

الْعَابِدُ هُوَ الْعَامِلُ- بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ النَّافِعِ- لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ‏.‏ فَغَيْرَتُهُ عَلَى مَا ضَاعَ عَلَيْهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ‏.‏ فَهُوَ يَسْتَرِدُّ ضَيَاعَهُ بِأَمْثَالِهِ‏.‏ وَيَجْبُرُ مَا فَاتَهُ مِنَ الْأَوْرَادِ وَالنَّوَافِلِ وَأَنْوَاعِ الْقُرَبِ بِفِعْلِ أَمْثَالِهَا، مِنْ جِنْسِهَا وَغَيْرِ جِنْسِهَا‏.‏ فَيَقْضِي مَا يَنْفَعُ فِيهِ الْقَضَاءُ‏.‏ وَيُعَوِّضُ مَا يَقْبَلُ الْعِوَضَ‏.‏ وَيَجْبُرُ مَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَيَسْتَدْرِكُ فَوَاتَهُ ‏"‏ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِرْدَادِ ضَائِعِهِ، وَاسْتِدْرَاكِ فَائِتِهِ، أَنَّ الْأَوَّلَ‏:‏ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَرَدَّ بِعَيْنِهِ، كَمَا إِذَا فَاتَهُ الْحَجُّ فِي عَامٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ‏.‏ فَأَضَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ‏:‏ اسْتَدْرَكَهُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ‏.‏ وَكَذَلِكَ إِذَا أَخَّرَ الزَّكَاةَ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا اسْتَدْرَكَهَا بَعْدَ تَأْخِيرِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الْفَائِتُ‏:‏ فَإِنَّمَا يُسْتَدْرَكُ بِنَظِيرِهِ‏.‏ كَقَضَاءِ الْوَاجِبِ الْمُؤَقَّتِ إِذَا فَاتَ وَقْتُهُ‏.‏

أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ بِاسْتِرْدَادِ الضَّائِعِ وَاسْتِدْرَاكِ الْفَائِتِ نَوْعَيِ التَّفْرِيطِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ‏.‏ فَيَسْتَرِدُّ ضَائِعَ هَذَا بِقَضَائِهِ وَفِعْلِ أَمْثَالِهِ‏.‏ وَيَسْتَدْرِكُ فَائِتَ هَذَا- أَيْ سَالِفَهُ- بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ‏.‏

وَأَمَّا تَدَارُكُ قُوَاهُ فَهُوَ أَنْ يَتَدَارَكَ قُوَّتَهُ بِبَذْلِهَا فِي الطَّاعَةِ قَبْلَ أَنْ تَتَبَدَّلَ بِالضَّعْفِ‏.‏ فَهُوَ يَغَارُ عَلَيْهَا أَنْ تَذْهَبَ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ‏.‏ وَيَتَدَارَكُ قُوَى الْعَمَلِ الَّذِي لَحِقَهُ الْفُتُورُ عَنْهُ بِأَنْ يَكْسُوَهُ قُوَّةً وَنَشَاطًا، غَيْرَةً لَهُ وَعَلَيْهِ‏.‏

فَهَذِهِ غَيْرَةُ الْعُبَّادِ عَلَى الْأَعْمَالِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ غَيْرَةُ الْمُرِيدِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ دَرَجَاتُ الْغَيْرَةِ‏:‏ غَيْرَةُ الْمُرِيدِ‏.‏ وَهِيَ غَيْرَةٌ عَلَى وَقْتٍ فَاتَ‏.‏ وَهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ‏.‏ فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي‏.‏ أَبِيُّ الْجَانِبِ، بَطِيُّ الرُّجُوعِ‏.‏

وَ ‏"‏ الْمُرِيدُونَ ‏"‏ هُمْ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ، وَ ‏"‏ الْعُبَّادُ ‏"‏ أَرْبَابُ الْأَوْرَادِ وَالْعِبَادَاتِ‏.‏ وَكُلُّ مُرِيدٍ عَابِدٌ‏.‏ وَكُلُّ عَابِدٍ مُرِيدٌ‏.‏ لَكِنَّ الْقَوْمَ خَصُّوا أَهْلَ الْمَحَبَّةِ وَأَذْوَاقِ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بَاسْمِ ‏"‏ الْمُرِيدِ ‏"‏ وَخَصُّوا أَصْحَابَ الْعَمَلِ الْمُجَرَّدِ بِاسْمِ ‏"‏ الْعَابِدِ ‏"‏ وَكُلُّ مُرِيدٍ لَا يَكُونُ عَابِدًا فَزِنْدِيقٌ، وَكُلُّ عَابِدٍ لَا يَكُونُ مُرِيدًا فَمُرَاءٍ‏.‏

وَ ‏"‏ الْوَقْتُ ‏"‏ عِنْدَ الْعَابِدِ‏:‏ هُوَ وَقْتُ الْعِبَادَةِ وَالْأَوْرَادِ‏.‏ وَعِنْدَ الْمُرِيدِ‏:‏ هُوَ وَقْتُ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ، وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالْعُكُوفِ عَلَيْهِ بِالْقَلْبِ كُلِّهِ‏.‏

وَ ‏"‏ الْوَقْتُ ‏"‏ أَعَزُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، يَغَارُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْقَضِيَ بِدُونِ ذَلِكَ‏.‏ فَإِذَا فَاتَهُ الْوَقْتُ لَا يُمْكِنُهُ اسْتِدْرَاكُهُ أَلْبَتَّةَ‏.‏ لِأَنَّ الْوَقْتَ الثَّانِيَ قَدِ اسْتَحَقَّ وَاجِبَهُ الْخَاصَّ، فَإِذَا فَاتَهُ وَقْتٌ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَدَارُكِهِ‏.‏

كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ، مُتَعَمِّدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ‏:‏ لَمْ يَقْضِهِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَهِيَ غَيْرَةٌ قَاتِلَةٌ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ مُضِرَّةً ضَرَرًا شَدِيدًا بَيِّنًا يُشْبِهُ الْقَتْلَ، لِأَنَّ حَسْرَةَ الْفَوْتِ قَاتِلَةٌ‏.‏ وَلَا سِيَّمَا إِذَا عَلِمَ الْمُتَحَسِّرُ‏:‏ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ‏.‏

وَأَيْضًا‏.‏ فَالْغَيْرَةُ عَلَى التَّفْوِيتِ تَفْوِيتٌ آخَرُ، كَمَا يُقَالُ‏:‏ الِاشْتِغَالُ بِالنَّدَمِ عَلَى الْوَقْتِ الْفَائِتِ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ‏.‏ وَلِذَلِكَ يُقَالُ‏:‏ الْوَقْتُ سَيْفٌ‏.‏ إِنْ لَمْ تَقْطَعْهُ، وَإِلَّا قَطَعَكَ‏.‏

ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْغَيْرَةِ قَاتِلَةً‏.‏ فَقَالَ‏:‏

‏"‏ فَإِنَّ الْوَقْتَ وَحِيُّ التَّقَضِّي ‏"‏ أَيْ سَرِيعُ الِانْقِضَاءِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ الْوَحَا الْوَحَا، الْعَجَلَ الْعَجَلَ، وَالْوَحْيُ الْإِعْلَامُ فِي خَفَاءٍ وَسُرْعَةٍ‏.‏ وَيُقَالُ‏:‏ جَاءَ فُلَانٌ وَحْيًا أَيْ مَجِيئًا سَرِيعًا‏.‏

فَالْوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذَاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ‏.‏ فَمَنْ غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أَوْقَاتُهُ، وَعَظُمَ فَوَاتُهُ‏.‏ وَاشْتَدَّتْ حَسَرَاتُهُ‏.‏ فَكَيْفَ حَالُهُ إِذَا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْفَوْتِ مِقْدَارَ مَا أَضَاعَ‏.‏ وَطَلَبَ الرُّجْعَى فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِرْجَاعِ وَطَلَبِ تَنَاوُلِ الْفَائِتِ‏.‏

وَكَيْفَ يُرَدُّ الْأَمْسُ فِي الْيَوْمِ الْجَدِيدِ‏؟‏ ‏{‏وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ وَمُنِعَ مِمَّا يُحِبُّهُ وَيَرْتَضِيهِ، وَعَلِمَ أَنَّ مَا اقْتَنَاهُ لَيْسَ مِمَّا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَقْتَنِيَهُ، وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهِيهِ‏.‏

فَيَا حَسَرَاتِ مَا إِلَى رَدِّ مِثْلِهِ *** سَبِيلٌ وَلَوْ رُدَّتْ لَهَانَ التَّحَسُّرُ

هِيَ الشَّهَوَاتُ اللَّاءِ كَانَتْ تَحَوَّلَتْ *** إِلَى حَسَرَاتٍ حِينَ عَزَّ التَّصَبُّرُ

فَلَوْ أَنَّهَا رُدَّتْ بِصَبْرٍ وَقُوَّةٍ *** تَحَوَّلْنَ لَذَّاتٍ وَذُو اللُّبِّ يُبْصِرُ

وَيُقَالُ‏:‏ إِنَّ أَصْعَبَ الْأَحْوَالِ الْمُنْقَطِعَةِ‏:‏ انْقِطَاعُ الْأَنْفَاسِ‏.‏ فَإِنَّ أَرْبَابَهَا إِذَا صَعِدَ النَّفَسُ الْوَاحِدُ صَعَّدُوهُ إِلَى نَحْوِ مَحْبُوبِهِمْ، صَاعِدًا إِلَيْهِ، مُتَلَبِّسًا بِمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ‏.‏ فَإِذَا أَرَادُوا دَفْعَهُ لَمْ يَدْفَعُوهُ حَتَّى يُتْبِعُوهُ نَفَسًا آخَرَ مِثْلَهُ‏.‏ فَكُلُّ أَنْفَاسِهِمْ بِاللَّهِ‏.‏ وَإِلَى اللَّهِ، مُتَلَبِّسَةً بِمَحَبَّتِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ وَالْأُنْسِ بِهِ‏.‏ فَلَا يَفُوتُهُمْ نَفَسٌ مِنْ أَنْفَاسِهِمْ مَعَ اللَّهِ إِلَّا إِذَا غَلَبَهُمُ النَّوْمُ‏.‏ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَرَى فِي نَوْمِهِ‏:‏ أَنَّهُ كَذَلِكَ لِالْتِبَاسِ رُوحِهِ وَقَلْبِهِ‏.‏ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ أَوْقَاتَ نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ‏.‏ وَلَا تُسْتَنْكَرُ هَذِهِ الْحَالُ‏.‏ فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ إِذَا غَلَبَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَمَلَكَتْهُ‏:‏ أَوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ الْوَارِدَاتِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ‏.‏ تَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ السَّحَابِ، وَيَنْقَضِي الْوَقْتُ بِمَا فِيهِ‏.‏ فَلَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْهُ إِلَّا أَثَرُهُ وَحُكْمُهُ‏.‏ فَاخْتَرْ لِنَفْسِكَ مَا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنْ وَقْتِكَ‏.‏ فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَيْكَ لَا مَحَالَةَ‏.‏ لِهَذَا يُقَالُ لِلسُّعَدَاءِ ‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ‏}‏ وَيُقَالُ لِلْأَشْقِيَاءِ ‏{‏ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ غَيْرَةُ الْعَارِفِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ دَرَجَاتُ الْغَيْرَةِ‏:‏ غَيْرَةُ الْعَارِفِ عَلَى عَيْنٍ غَطَّاهَا غَيْنٌ‏.‏ وَسُرٍّ غَشِيَهُ رَيْنٌ، وَنَفَسٍ عَلِقَ بِرَجَاءٍ، أَوِ الْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ‏.‏

أَيْ يَغَارُ عَلَى بَصِيرَةٍ غَطَّاهَا سِتْرٌ أَوْ حِجَابٌ‏.‏ فَإِنَّ الْغَيْنَ بِمَنْزِلَةِ الْغِطَاءِ وَالْحِجَابِ‏.‏ وَهُوَ غِطَاءٌ رَقِيقٌ جِدًّا‏.‏ وَفَوْقَهُ الْغَيْمُ وَهُوَ لِعُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏ وَفَوْقَهُ الرَّيْنُ وَالرَّانُ وَهُوَ لِلْكُفَّارِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَسِرٍّ غَشِيَهُ رَيْنٌ ‏"‏ أَيْ حِجَابٌ أَغْلَظُ مِنَ الْغَيْمِ الْأَوَّلِ‏.‏

وَالسِّرُّ هَاهُنَا‏:‏ إِمَّا اللَّطِيفَةُ الْمُدْرَكَةُ مِنَ الرُّوحِ، وَإِمَّا الْحَالُ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ فَإِذَا غَشِيَهُ رَيْنُ النَّفْسِ وَالطَّبِيعَةِ اسْتَغَاثَ صَاحِبُهُ، كَمَا يَسْتَغِيثُ الْمُعَذَّبُ فِي عَذَابِهِ، غَيْرَةً عَلَى سِرِّهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّيْنِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ وَنَفَسٌ عَلِقَ بِرَجَاءٍ، وَالْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ أَنَّ صَاحِبَ النَّفَسِ يَغَارُ عَلَى نَفَسِهِ إِذَا تَعَلَّقَ بِرَجَاءٍ مِنْ ثَوَابٍ مُنْفَصِلٍ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِإِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ‏.‏ فَإِنَّ بَيْنَ النَّفَسَيْنِ كَمَا بَيْنَ مُتَعَلَّقِهِمَا‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ‏"‏ أَوِ الْتَفَتَ إِلَى عَطَاءٍ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ يَلْتَفِتُ إِلَى عَطَاءِ مَنْ دُونِ اللَّهِ فَيَرْضَى بِهِ‏.‏ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَلَّقَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا يَلْتَفِتَ إِلَّا إِلَى الْمُعْطِي الْغَنِيِّ الْحَمِيدِ‏.‏ وَهُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏"‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏ مَنْزِلَةُ الشَّوْقِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ‏}‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ هَذَا تَعْزِيَةٌ لِلْمُشْتَاقِينَ، وَتَسْلِيَةٌ لَهُمْ‏.‏ أَيْ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَائِي فَهُوَ مُشْتَاقٌ إِلَيَّ‏.‏ فَقَدْ أَجَّلْتُ لَهُ أَجَلًا يَكُونُ عَنْ قَرِيبٍ‏.‏ فَإِنَّهُ آتٍ لَا مَحَالَةَ‏.‏ وَكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ‏.‏

وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى‏.‏ وَهِيَ تَعْلِيلُ الْمُشْتَاقِينَ بِرَجَاءِ اللِّقَاءِ‏.‏

لَوْلَا التَّعَلُّلُ بِالرَّجَاءِ لَقُطِّعَتْ *** نَفْسُ الْمُحِبِّ صَبَابَةً وَتَشَوُّقًا

وَلَقَدْ يَكَادُ يَذُوبُ مِنْهُ قَلْبُهُ *** مِمَّا يُقَاسِي حَسْرَةً وَتَحَرُّقَا

حَتَّى إِذَا رَوْحُ الرَّجَاءِ أَصَابَهُ *** سَكَنَ الْحَرِيقُ إِذَا تَعَلَّلَ بِاللِّقَا

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فِي دُعَائِهِ أَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ‏.‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَائِمَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ‏.‏ لَمْ يَسْكُنْ شَوْقُهُ إِلَى لِقَائِهِ قَطُّ‏.‏ وَلَكِنَّ الشَّوْقَ مَائَةُ جُزْءٍ‏.‏ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لَهُ‏.‏ وَجُزْءٌ مَقْسُومٌ عَلَى الْأُمَّةِ‏.‏ فَأَرَادَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْجُزْءُ مُضَافًا إِلَى مَا لَهُ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الشَّوْقُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ‏]‏

وَالشَّوْقُ حَقِيقَتُهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمَحَبَّةِ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهَا‏.‏ فَإِنَّهُ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي كُلِّ حَالٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ اهْتِيَاجُ الْقُلُوبِ إِلَى لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ احْتِرَاقُ الْأَحْشَاءِ‏.‏ وَمِنْهَا يَتَهَيَّجُ وَيَتَوَلَّدُ، وَيُلْهِبُ الْقُلُوبَ وَيُقَطِّعُ الْأَكْبَادَ‏.‏

وَالْمَحَبَّةُ أَعْلَى مِنْهُ‏.‏ لِأَنَّ الشَّوْقَ عَنْهَا يَتَوَلَّدُ، وَعَلَى قَدْرِهَا يَقْوَى وَيَضْعُفُ‏.‏

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ عَلَامَةُ الشَّوْقِ فِطَامُ الْجَوَارِحِ عَنِ الشَّهَوَاتِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ‏:‏ عَلَامَتُهُ حُبُّ الْمَوْتِ مَعَ الرَّاحَةِ وَالْعَافِيَةِ، كَحَالِ يُوسُفَ لَمَّا أُلْقِيَ فِي الْجُبِّ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا أُدْخِلَ السِّجْنَ لَمْ يَقُلْ تَوَفَّنِي، وَلَمَّا تَمَّ لَهُ الْأَمْرُ وَالْأَمْنُ وَالنِّعْمَةُ، قَالَ‏:‏ ‏"‏ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ‏"‏‏.‏

قَالَ ابْنُ خَفِيفٍ‏:‏ الشَّوْقُ ارْتِيَاحُ الْقُلُوبِ بِالْوَجْدِ، وَمَحَبَّةُ اللِّقَاءِ بِالْقُرْبِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ لَهَبٌ يَنْشَأُ بَيْنَ أَثْنَاءِ الْحَشَا، يَسْنَحُ عَنِ الْفُرْقَةِ‏.‏ فَإِذَا وَقَعَ اللِّقَاءُ طُفِئَ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هَذِهِ مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ بَيْنَ الْمُحِبِّينَ‏.‏ وَهِيَ‏:‏ أَنَّ الشَّوْقَ هَلْ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ أَمْ لَا‏؟‏

وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ لَا تَزُولُ بِاللِّقَاءِ‏.‏

فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ‏:‏ يَزُولُ بِاللِّقَاءِ‏.‏ لِأَنَّ الشَّوْقَ هُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى مَحْبُوبِهِ‏.‏ فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْهِ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ، صَارَ مَكَانَ الشَّوْقِ قُرَّةُ عَيْنِهِ بِهِ‏.‏ وَهَذِهِ الْقُرَّةُ تُجَامِعُ الْمَحَبَّةَ وَلَا تُنَافِيهَا‏.‏

قَالَ هَؤُلَاءِ‏:‏ وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْقَلْبِ مُشَاهَدَةَ الْمَحْبُوبِ، لَمْ يَطْرُقْهُ الشَّوْقُ‏.‏

وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ‏:‏ هَلْ تَشْتَاقُ إِلَيْهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ لَا‏.‏ إِنَّمَا الشَّوْقُ إِلَى غَائِبٍ، وَهُوَ حَاضِرٌ‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ بَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِالْقُرْبِ وَالْوُصُولِ، وَلَا يَزُولُ‏.‏ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوُصُولِ عَلَى الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ، وَبَعْدَهُ‏:‏ قَدْ صَارَ عَلَى الْعِيَانِ وَالشُّهُودِ‏.‏ وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏

وَأَبْرَحُ مَا يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا *** إِذَا دَنَتِ الْخِيَامُ مِنَ الْخِيَامِ

قَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ سَمِعْتُ السَّرِيَّ يَقُولُ‏:‏ الشَّوْقُ أَجَلُّ مَقَامٍ لِلْعَارِفِ إِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ‏.‏ وَإِذَا تَحَقَّقَ فِي الشَّوْقِ لَهَا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشْغَلُهُ عَمَّنْ يَشْتَاقُ إِلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا‏:‏ فَأَهْلُ الْجَنَّةِ دَائِمًا فِي شَوْقٍ إِلَى اللَّهِ، مَعَ قُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الشَّوْقَ يَكُونُ حَالَ اللِّقَاءِ أَعْظَمَ‏:‏ أَنَّا نَرَى الْمُحِبَّ يَبْكِي عِنْدَ لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ‏.‏ وَذَلِكَ الْبُكَاءُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ شِدَّةِ شَوْقِهِ إِلَيْهِ، وَوَجْدِهِ بِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِدُ عِنْدَ لِقَائِهِ نَوْعًا مِنَ الشَّوْقِ لَمْ يَجِدْهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الشَّوْقُ‏:‏ يُرَادُ بِهِ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُلِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ‏]‏

النِّزَاعُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ‏:‏ أَنَّ الشَّوْقَ يُرَادُ بِهِ‏:‏ حَرَكَةُ الْقَلْبِ وَاهْتِيَاجُهُ لِلِقَاءِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ فَهَذَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ‏.‏ وَلَكِنْ يَعْقُبُهُ شَوْقٌ آخَرُ أَعْظَمُ مِنْهُ، تُثِيرُهُ حَلَاوَةُ الْوَصْلِ وَمُشَاهَدَةُ جَمَالِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ فَهَذَا يَزِيدُ بِاللِّقَاءِ وَالْقُرْبِ وَلَا يَزُولُ‏.‏ وَالْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا‏:‏ وُجُودُهُ‏.‏ وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ‏:‏ حُصُولُهُ‏.‏

وَبَعْضُهُمْ سَمَّى النَّوْعَ الْأَوَّلَ‏:‏ شَوْقًا‏.‏ وَالثَّانِيَ‏:‏ اشْتِيَاقًا‏.‏

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ‏:‏ سَمِعْتُ الْأُسْتَاذَ أَبَا عَلِيٍّ الدَّقَّاقَ يُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْقِ وَالِاشْتِيَاقِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا‏.‏ وَيَقُولُ‏:‏ الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاءِ‏.‏ وَالِاشْتِيَاقُ لَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا‏:‏

مَا يَرْجِعُالطَّرْفُ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ *** حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِالطَّرْفُ مُشْتَاقَا

وَقَالَ النَّصْرَابَاذِيُّ‏:‏ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ مَقَامُ الشَّوْقِ‏.‏ وَلَيْسَ لَهُمْ مَقَامُ الِاشْتِيَاقِ‏.‏ وَمَنْ دَخَلَ فِي حَالِ الِاشْتِيَاقِ هَامَ فِيهِ حَتَّى لَا يُرَى لَهُ فِيهِ أَثَرٌ وَلَا قَرَارٌ‏.‏

قَالَ الدَّقَّاقُ- فِي قَوْلِ مُوسَى ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏}‏ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ شَوْقًا إِلَيْكَ‏.‏ فَسَتَرَهُ بِلَفْظِ الرِّضَا‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ أَهْلَ الشَّوْقِ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ يَتَحَسَّوْنَ حَلَاوَةَ الْقُرْبِ عِنْدَ وُرُودِهِ- لِمَا قَدْ كُشِفَ لَهُمْ مِنْ رُوحِ الْوُصُولِ- أَحْلَى مِنَ الشَّهْدِ‏.‏ فَهُمْ فِي سَكَرَاتِهِ فِي أَعْظَمِ لَذَّةٍ وَحَلَاوَةٍ‏.‏ وَقِيلَ‏:‏ مَنِ اشْتَاقَ إِلَى اللَّهِ اشْتَاقَ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ‏.‏ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ أَنَا أَدْخُلُ فِي الشَّوْقِ وَالْأَشْيَاءُ تَشْتَاقُ إِلَيَّ‏.‏ وَأَتَأَخَّرُ عَنْ جَمِيعِهَا‏.‏ وَفِي مِثْلِ هَذَا قِيلَ‏:‏

إِذَا اشْتَاقَتِ الْخَيْلُ الْمَنَاهِلَ أَعْرَضَتْ *** عَنِ الْمَاءِ فَاشْتَاقَتْ إِلَيْهَا الْمَنَاهِلُ

وَكَانَتْ عَجُوزٌ مُغَيَّبَةٌ‏.‏ فَقَدِمَ غَائِبُهَا مِنَ السَّفَرِ‏.‏ فَفَرِحَ بِهِ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ، وَقَعَدَتْ هِيَ تَبْكِي‏.‏ فَقِيلَ لَهَا‏:‏ مَا يُبْكِيكَ‏؟‏ فَقَالَتْ‏:‏ ذَكَّرَنِي قُدُومُ هَذَا الْفَتَى يَوْمَ الْقُدُومِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏

يَا مَنْ شَكَا شَوْقُهُ مِنْ طُولِ فُرْقَتِهِ *** اصْبِرْ لَعَلَّكَ تَلْقَى مَنْ تُحِبُّ غَدَا

وَقِيلَ‏:‏ خَرَجَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إِلَى الصَّحْرَاءِ مُنْفَرِدًا‏.‏ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ‏:‏ مَا لِي أَرَاكَ مُنْفَرِدًا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ إِلَهِي اسْتَأْثَرَ شَوْقِي إِلَى لِقَائِكَ عَلَى قَلْبِي‏.‏ فَحَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صُحْبَةِ الْخَلْقِ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ‏.‏ فَإِنَّكَ إِنْ أَتَيْتَنِي بِعَبْدٍ آبِقٍأُثْبِتْكَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ جَهْبَذًا‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الشَّوْقُ‏:‏ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ‏]‏

قَالَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏

الشَّوْقُ‏:‏ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ‏.‏ وَفِي مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏:‏ عِلَّةُ الشَّوْقِ هَلْ يَزِيدُ الشَّوْقُ بِاللِّقَاءِ‏؟‏‏.‏ عَظِيمَةٌ‏.‏ فَإِنَّ الشَّوْقَ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى الْغَائِبِ‏.‏ وَمَذْهَبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ‏:‏ إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ‏.‏ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَمْ يَنْطِقِ الْقُرْآنُ بِاسْمِهِ‏.‏

قُلْتُ‏:‏ هُوَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ‏}‏ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ الرَّجَاءَ شَوْقًا بِلِسَانِ الِاعْتِبَارِ لَا بِلِسَانِ التَّفْسِيرِ‏.‏ أَوْ أَنَّ دَلَالَةَ الرَّجَاءِ عَلَى الشَّوْقِ بِاللُّزُومِ، لَا بِالتَّضَمُّنِ وَلَا بِالْمُطَابَقَةِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ هُبُوبُ الْقَلْبِ إِلَى غَائِبٍ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ سَفَرَهُ إِلَيْهِ، وَهُوِيَّهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَأَمَّا الْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الشَّوْقِ‏:‏ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الشَّوْقَ فِي حَالِ اللِّقَاءِ أَكْمَلَ مِنْهُ فِي حَالِ الْمَغِيبِ‏.‏ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ‏:‏ لَا عِلَّةَ فِيهِ‏.‏

وَأَمَّا مَنْ جَعَلَهُ سَفَرَ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَنْهُ، فَعَلَى قَوْلِهِ‏:‏ يَجِيءُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ‏.‏ وَوَجْهُهُ مَفْهُومٌ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ فَإِنَّ مَذْهَبَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ‏"‏- الَّذِي هُوَ الْفَنَاءُ- يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ الْفَنَاءَ إِنَّمَا قَامَ عَلَى الْمُشَاهَدَةِ‏.‏ فَإِنَّ بِدَايَتَهُ- كَمَا قَرَّرَهُ هُوَ- الْمَحَبَّةُ الَّتِي هِيَ نِهَايَةُ مَقَامَاتِ الْمُرِيدِينَ‏.‏ وَالْفَنَاءُ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ‏.‏ وَمَعَ الْمُشَاهَدَةِ لَا عَمَلَ لِلشَّوْقِ‏.‏

فَيُقَالُ‏:‏ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْمُشَاهَدَةَ لَا تُزِيلُ الشَّوْقَ بَلْ تَزِيدُهُ، كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَا مُشَاهَدَةَ أَكْمَلُ مِنْ مُشَاهَدَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏.‏ وَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْمَزِيدِ- وَهُوَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ- أَشْوَقُ شَيْءٍ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ‏.‏ وَكَذَلِكَ هُمْ أَشْوَقُ شَيْءٍ إِلَى رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِهِ تَعَالَى وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ‏.‏ فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ‏.‏ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ إِنَّ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً‏:‏ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ‏.‏

وَمَعْلُومٌ قَطْعًا‏:‏ أَنَّ شَوْقَ هَذَا إِلَى الرُّؤْيَةِ قَبْلَ حُصُولِهَا أَعْظَمُ شَوْقٍ يُقَدَّرُ، وَحُصُولُ الْمُشَاهَدَةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَتَمُّ مِنْهَا لِأَهْلِ الدُّنْيَا‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةٍ تُزِيلُ الشَّوْقَ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَمَنِ ادَّعَى هَذَا فَقَدَ كَذَبَ وَافْتَرَى‏.‏ فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ‏.‏ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَضْلًا عَمَّنْ دُونَهُ‏.‏

فَمَا هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الَّتِي مَبْنَى مَذْهَبِ هَذِهِ الطَّائِفَةِ عَلَيْهَا‏.‏ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ مَعَهَا شَوْقٌ‏؟‏ أَهِيَ كَمَالُ الْمُشَاهَدَةِ عِيَانًا وَجَهْرَةً‏؟‏ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ‏.‏

أَمْ نَوْعٌ مِنْ مُشَاهَدَةِ الْقَلْبِ لِمَعْرُوفِهِ، مَعَ اقْتِرَانِهَا بِالْحُجُبِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ‏؟‏ فَهَلْ تَمْنَعُ هَذِهِ الْمُشَاهَدَةُ الشَّوْقَ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا‏؟‏ وَهَلِ الْأَمْرُ إِلَّا بِالْعَكْسِ فِي الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ وَالْحَقِيقَةِ‏.‏ لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ مَحْبُوبَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ‏.‏ كَانَ شَوْقُهُ إِلَى كَمَالِ مُشَاهَدَتِهِ أَشَدَّ وَأَعْظَمَ‏.‏ وَتَكُونُ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةُ الْجُزْئِيَّةُ سَبَبًا لِاشْتِيَاقِهِ إِلَى كَمَالِهَا وَتَمَامِهَا‏.‏ فَأَيْنَ الْعِلَّةُ فِي الشَّوْقِ‏؟‏ وَأَيْنَ الْمُشَاهَدَةُ الْمَانِعَةُ مِنَ الشَّوْقِ‏؟‏

وَهَذَا بِحَمْدِ اللَّهِ ظَاهِرٌ‏.‏ وَمَنْ نَازَعَ فِيهِ كَانَ مُكَابِرًا‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الشَّوْقِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ‏]‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ دَرَجَاتُ الشَّوْقِ‏.‏ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ شَوْقُ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ، الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الشَّوْقِ لِيَأْمَنَ الْخَائِفُ وَيَفْرَحَ الْحَزِينُ‏.‏ وَيَظْفَرَ الْآمِلُ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ شَوْقَ الْعَابِدِ إِلَى الْجَنَّةِ فِيهِ هَذِهِ الْحِكَمُ الثَّلَاثُ‏.‏

أَحَدُهَا‏:‏ حُصُولُ الْأَمْنِ الْبَاعِثِ عَلَى الْأَمَلِ‏.‏ فَإِنَّ الْخَوْفَ الْمُجَرَّدَ عَنِ الْأَمْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يَنْبَعِثُ صَاحِبُهُ لِعَمَلٍ أَلْبَتَّةَ إِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ أَمَلٌ‏.‏ فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْهُ قُطِعَ وَصَارَ قَنُوطًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ فَرَحُ الْحَزِينِ‏.‏ فَإِنَّ الْحُزْنَ الْمُجَرَّدَ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ الْفَرَحُ قَتَلَ صَاحِبَهُ‏.‏ فَلَوْلَا رُوحُ الْفَرَحِ لَتَعَطَّلَتْ قُوَى الْحَزِينِ وَقَعَدَ حُزْنُهُ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا قَعَدَ بِهِ الْحُزْنُ قَامَ بِهِ رُوحُ الْفَرَحِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ رُوحُ الظَّفَرِ‏.‏ فَإِنَّ الْآمِلَ إِنْ لَمْ يَصْحَبْهُ رُوحُ الظَّفَرِ مَاتَ أَمَلُهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ شَوْقٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الشَّوْقِ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ فَاشْتَاقَ إِلَى مُعَايَنَةِ لِطَائِفِ كَرَمِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ وَأَعْلَامِ فَضْلِهِ‏.‏ وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ، وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ، وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ‏.‏

الشَّوْقُ إِلَى اللَّهِ لَا يُنَافِي الشَّوْقَ إِلَى الْجَنَّةِ‏.‏ فَإِنَّ أَطْيَبَ مَا فِي الْجَنَّةِ‏:‏ قُرْبُهُ تَعَالَى، وَرُؤْيَتُهُ، وَسَمَاعُ كَلَامِهِ وَرِضَاهُ‏.‏ نَعَمْ‏.‏ الشَّوْقُ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْحُورِ الْعِينِ فِي الْجَنَّةِ نَاقِصٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَوْقِ الْمُحِبِّينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ بَلْ لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَهَذَا الشَّوْقُ دَرَجَتَانِ‏.‏

إِحْدَاهُمَا‏:‏ شَوْقٌ زَرَعَهُ الْحُبُّ الَّذِي سَبَبُهُ الْإِحْسَانُ وَالْمِنَّةُ‏.‏ وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ‏:‏ يَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ‏.‏ فَسَبَبُهُ مُطَالَعَةُ مِنَّةِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ وَنِعَمِهِ‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلَةِ الْمَحَبَّةِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ أَكْمَلُ وَأَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ الْإِحْسَانِ وَالْآلَاءِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ ‏"‏ تَنْبُتُ عَلَى حَافَّاتِ الْمِنَنِ ‏"‏ أَيْ جَوَانِبِهِ‏:‏ إِشَارَةٌ إِلَى عَدَمِ تَمَكُّنِهَا وَقُوَّتِهَا، وَأَنَّهَا مِنْ نَبَاتِ الْحَافَّاتِ الَّتِي هِيَ جَوَانِبُ الْمِنَنِ‏.‏ لَا مِنْ نَبَاتِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ ‏"‏ يَعْنِي الصِّفَاتِ الْمُخْتَصَّةَ بِالْمِنَنِ وَالْإِحْسَانِ‏.‏ كَالْبَرِّ وَالْمَنَّانِ، وَالْمُحْسِنِ، وَالْجَوَادِ، وَالْمُعْطِي، وَالْغَفُورِ، وَنَحْوِهَا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ الْمُقَدَّسَةُ ‏"‏ يَعْنِي الْمُطَهَّرَةَ الْمُنَزَّهَةَ عَنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَشْبِيهِ الْمُمَثِّلِينَ وَتَعَطُّلِ الْمُعَطِّلِينَ‏.‏ وَإِنَّمَا قُلْنَا‏:‏ إِنَّ مُرَادَهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ الْخَاصَّةُ لِوَجْهَيْنِ‏.‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالصِّفَاتِ الْعَامَّةِ‏:‏ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ جَعَلَ ثَمَرَةَ هَذَا التَّعَلُّقِ شَوْقَ الْعَبْدِ إِلَى مُعَايَنَةِ لَطَائِفِ كَرَمِ الرَّبِّ وَمِنَنِهِ وَإِحْسَانِهِ وَآيَاتِ بِرِّهِ‏.‏ وَهِيَ عَلَامَاتُ بِرِّهِ بِالْعَبْدِ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ‏(‏أَعْلَامُ فَضْلِهِ‏)‏ وَهُوَ مَا يُفْضِلُ عَلَيْهِ بِهِ، وَيُفَضِّلُهُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَهَذَا شَوْقٌ تَغْشَاهُ الْمَبَارُّ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ أَنَّهُ شَوْقٌ مَعْلُولٌ‏.‏ لَيْسَ خَالِصًا لِذَاتِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ بَلْ لِمَا يَنَالُ مِنْهُ مِنَ الْمَبَارِّ ‏"‏ فَقَدْ غَشِيَتْهُ ‏"‏ أَيْ أَدْرَكَتْهُ الْمَبَارُّ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَتُخَالِجُهُ الْمَسَارُّ ‏"‏ أَيْ تَجَاذَبُهُ‏.‏ فَإِنَّ الْمُخَالَجَةَ هِيَ الْمُجَاذَبَةُ‏.‏ فَإِذَا خَالَطَ هَذَا الشَّوْقَ الْفَرَحُ‏:‏ كَانَ مَمْزُوجًا بِنَوْعٍ مِنَ الْحَظِّ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ وَيُقَاوِمُهُ الِاصْطِبَارُ ‏"‏ أَيْ أَنَّ صَاحِبَهُ يَقْوَى عَلَى الصَّبْرِ، فَيُقَاوِمُ صَبْرُهُ شَوْقَهُ وَلَا يَغْلِبُهُ، بِخِلَافِ الشَّوْقِ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الشَّوْقُ الْخَالِصُ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ نَارٌ أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ، الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الشَّوْقِ فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ‏.‏ وَسَلَبَتِ السَّلْوَةُ‏.‏ وَلَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ الشَّوْقَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ‏:‏ شَبِيهٌ بِالنَّارِ الَّتِي أَضْرَمَهَا صَفْوُ الْمَحَبَّةِ‏.‏ وَهُوَ خَالِصُهَا‏.‏ وَشَبَّهَهُ بِالنَّارِ لِالْتِهَابِهِ فِي الْأَحْشَاءِ‏.‏

وَفِي قَوْلِهِ ‏"‏ صَفْوُ الْمَحَبَّةِ ‏"‏ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهَا مَحَبَّةٌ لَمْ تَكُنْ لِأَجْلِ الْمِنَّةِ وَالنِّعَمِ‏.‏ وَلَكِنْ مَحَبَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ فَنَغَّصَتِ الْعَيْشَ ‏"‏ أَيْ مَنَعَتْ صَاحِبَهَا السُّكُونَ إِلَى لَذِيذِ الْعَيْشِ‏.‏ وَ ‏"‏ التَّنْغِيصُ ‏"‏ قَرِيبٌ مِنَ التَّكْدِيرِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَسَلَبَتِ السَّلْوَةَ ‏"‏ أَيْ نَهَبَتِ السُّلُوَّ وَأَخَذَتْهُ قَهْرًا‏.‏

وَ ‏"‏ السَّلْوَةُ ‏"‏ هِيَ الْخَلَاصُ مِنْ كَرْبِ الْمَحَبَّةِ وَإِلْقَاءُ حِمْلِهَا عَنِ الظَّهْرِ‏.‏ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْمَحْبُوبِ تَنَاسِيًا‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ لَمْ يُنَهْنِهْهَا مَعْزًى دُونَ اللِّقَاءِ ‏"‏ أَيْ لَمْ يَكْفِهَا وَيَرُدَّهَا قَرَارٌ دُونَ لِقَاءِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ وَهَذِهِ لَا يُقَاوِمُهَا الِاصْطِبَارُ‏.‏ لِأَنَّهُ لَا يَكُفُّهَا دُونَ لِقَاءِ مَنْ يُحِبُّ قَرَارٌ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْقَلَقُ

وَقَدْ يَقْوَى هَذَا الشَّوْقُ، وَيَتَجَرَّدُ عَنِ الصَّبْرِ‏.‏ فَيُسَمَّى قَلَقًا وَبِذَلِكَ سَمَّاهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ، وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى- حَاكِيًا عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم‏:‏ ‏{‏وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏}‏ فَكَأَنَّهُ فَهِمَ‏:‏ أَنَّ عَجَلَتَهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا الْقَلَقُ حَقِيقَتُهُ‏.‏ وَهُوَ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ لِلِقَائِهِ وَمِيعَادِهِ‏.‏

وَظَاهِرُ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّ الْحَامِلَ لِمُوسَى عَلَى الْعَجَلَةِ‏:‏ هُوَ طَلَبُ رِضَا رَبِّهِ، وَأَنَّ رِضَاهُ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ، وَالْعَجَلَةِ إِلَيْهَا‏.‏ وَلِهَذَا احْتَجَّ السَّلَفُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَفْضَلُ‏.‏ سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ يَذْكُرُ ذَلِكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ إِنَّ رِضَا الرَّبِّ فِي الْعَجَلَةِ إِلَى أَوَامِرِهِ‏.‏

ثُمَّ حَدَّهُ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِأَنَّهُ تَجْرِيدُ الشَّوْقِ بِإِسْقَاطِ الصَّبْرِ أَيْ تَخَلُّصِهِ مِنْ كُلِّ شَائِبَةٍ بِحَيْثُ يَسْقُطُ مَعَهُ الصَّبْرُ، فَإِنْ قَارَنَهُ اصْطِبَارٌ فَهُوَ شَوْقٌ‏.‏

‏[‏دَرَجَاتُ الْقَلَقِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ، وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ، وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ‏]‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ، دَرَجَاتُ الْقَلَقِ الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ قَلَقٌ يُضَيِّقُ الْخُلُقَ، الْأُولَى مِنْ دَرَجَاتِ الْقَلَقِ وَيُبَغِّضُ الْخَلْقَ‏.‏ وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ‏.‏

يَعْنِي‏:‏ يَضِيقُ خُلُقُ صَاحِبِهِ عَنِ احْتِمَالِ الْأَغْيَارِ‏.‏ فَلَا يُبْقِي فِيهِ اتِّسَاعًا لِحَمْلِهِمْ، فَضْلًا عَنْ تَقْيِيدِهِمْ لَهُ، وَتَعُوقَهُ بِأَنْفَاسِهِمْ‏.‏

وَ ‏"‏ يُبْغِضُ الْخَلْقَ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ لَا شَيْءَ أَبْغَضَ إِلَى صَاحِبِهِ مِنِ اجْتِمَاعِهِ بِالْخَلْقِ‏.‏ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ حَالِهِ وَبَيْنَ خُلْطَتِهِمْ‏.‏

وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَقَارِبِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ‏:‏ كَانَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَخْرُجُ أَحْيَانًا إِلَى الصَّحْرَاءِ يَخْلُو عَنِ النَّاسِ، لِقُوَّةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ‏.‏ فَتَبِعْتُهُ يَوْمًا فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ‏.‏ ثُمَّ جَعَلَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ- وَهُوَ لِمَجْنُونِ لَيْلَى مِنْ قَصِيدَتِهِ الطَّوِيلَةِ-‏:‏

وَأَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الْبُيُوتِ لَعَلَّنِي *** أُحَدِّثُ عَنْكَ النَّفْسَ بِالسِّرِّ خَالِيًا

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْحَالِ‏:‏ إِنْ لَمْ يَرُدَّهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَى الْخَلْقِ بِتَثْبِيتٍ وَقُوَّةٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى مُخَالَطَتِهِمْ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَيُلَذِّذُ الْمَوْتَ ‏"‏ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَرْجُو فِيهِ لِقَاءَ مَحْبُوبِهِ‏.‏ فَإِذَا ذَكَرَ الْمَوْتَ الْتَذَّ بِهِ، كَمَا يَلْتَذُّ الْمُسَافِرُ بِتَذَكُّرِ قُدُومِهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ وَيُخَلِّي السَّمْعَ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ قَلَقٌ يُغَالِبُ الْعَقْلَ، الثَّانِيَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْقَلَقِ وَيُخَلِّي السَّمْعَ، وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ‏.‏

أَيْ يَكَادُ يَقْهَرُ الْعَقْلَ وَيَغْلِبُهُ‏.‏ فَهُوَ وَالْعَقْلُ تَارَةً وَتَارَةً‏.‏ وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إِلَى دَرَجَةِ الشُّهُودِ لَمْ يَصْطَلِمْهُ‏.‏ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَصْطَلِمُهُ إِلَّا الشُّهُودُ‏.‏ وَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ يُغَالِبُ، وَلَمْ يَقُلْ يَغْلِبُ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏ إِخْلَاؤُهُ السَّمْعَ ‏"‏ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ إِخْلَاءَهُ مِنْ شَيْءٍ، وَإِخْلَاءَهُ لِشَيْءٍ‏.‏ فَيُخْلِّيهِ مِنِ اسْتِمَاعِهِ ذِكْرَ الْغَيْرِ، وَيُخَلِّيهِ لِاسْتِمَاعِهِ أَوْصَافَ الْمَحْبُوبِ وَذِكْرَهُ وَحَدِيثَهُ‏.‏ وَقَدْ يَقْوَى إِلَى أَنْ يُبْعِدَ بَيْنَ قَلْبِ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ إِدْرَاكِ الْحَوَاسِّ؛ لِانْقِهَارِ الْحِسِّ لِسُلْطَانِ الْقَلَقِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَيُطَاوِلُ الطَّاقَةَ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ يُصَابِرُهَا وَيُقَاوِمُهَا‏.‏ فَلَا تَقْدِرُ طَاقَةُ الِاصْطِبَارِ عَلَى دَفْعِهِ وَرَدِّهِ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا وَلَا يُبْقِي أَحَدًا‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ قَلَقٌ لَا يَرْحَمُ أَبَدًا الثَّالِثَةُ مِنْ دَرَجَاتِ الْقَلَقِ‏.‏ وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا، وَلَا يُبْقِي أَحَدًا‏.‏

يُرِيدُ‏:‏ أَنَّ هَذَا الْقَلَقَ لَهُ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ‏.‏ لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ عَنْ شُهُودٍ‏.‏ فَإِذَا عَلِقَ بِالْقَلْبِ لَمْ يُبْقِ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي فَنَاءِ الشُّهُودِ‏.‏

‏"‏ وَلَا يَقْبَلُ أَمَدًا ‏"‏ أَيْ لَا يَقْبَلُ حَدًّا وَمِقْدَارًا يَقِفُ عِنْدَهُ‏.‏ وَيَنْقَضِي بِهِ، كَمَا يَنْقَضِي ذُو الْأَمَدِ‏.‏ فَإِنَّهُ حَاكِمٌ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ، مَالِكٌ لِلْقَلْبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ‏.‏

‏"‏ وَلَا يُبْقِي أَحَدًا ‏"‏ أَيْ يُلْقِي صَاحِبَهُ فِي الشُّهُودِ الَّذِي تَفْنَى فِيهِ الرُّسُومُ وَتَضْمَحِلُّ‏.‏ فَلَا يُبْقِي مَعَهُ عَلَى أَحَدٍ رَسْمَهُ حَتَّى يُفْنِيَهُ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ الْعَطَشُ

ثُمَّ يَقْوَى هَذَا الْقَلَقُ وَيَتَزَايَدُ حَتَّى يُورِثَ الْقَلْبَ حَالَةً شَبِيهَةً بِشِدَّةِ ظَمَإِ الصَّادِي الْحَرَّانِ إِلَى الْمَاءِ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ هِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ الْعَطَشَ، وَاسْتُشْهِدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْخَلِيلِ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي‏}‏ كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ إِشَارَةِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّهُ لِشِدَّةِ عَطَشِهِ إِلَى لِقَاءِ مَحْبُوبِهِ- لَمَّا رَأَى الْكَوْكَبَ- قَالَ‏:‏ هَذَا رَبِّي‏.‏ فَإِنَّ الْعَطْشَانَ إِذَا رَأَى السَّرَابَ ذَكَرَ بِهِ الْمَاءَ‏.‏ فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ إِلَيْهِ‏.‏

وَهَذَا لَيْسَ مَعْنَى الْآيَةِ قَطْعًا‏.‏ وَإِنَّمَا الْقَوْمُ مُولَعُونَ بِالْإِشَارَاتِ‏.‏ وَإِلَّا فَالْآيَةُ قَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ الِاسْتِفْهَامِ‏.‏ أَيْ أَهَذَا رَبِّي‏؟‏، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّهَا عَلَى وَجْهِ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى قَوْمِهِ‏.‏ فَتَصَوَّرَ بِصُورَةِ الْمُوَافِقِ، لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ‏.‏ ثُمَّ تَوَسَّلَ بِصُورَةِ الْمُوَافَقَةِ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْبُودُ نَاقِصًا آفِلًا‏.‏ فَإِنَّ الْمَعْبُودَ الْحَقَّ‏:‏ لَا يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ عَنْ عَابِدِيهِ وَخَلْقِهِ وَيَأْفُلُ عَنْهُمْ‏.‏ فَإِنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِرُبُوبِيَّتِهِ لَهُمْ‏.‏ أَوْ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ مَرَاتِبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَعْبُودِ حَتَّى أَوْصَلَهُ الدَّلِيلُ إِلَى الَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ‏.‏ فَوَجَّهَ إِلَيْهِ وَجْهَهُ حَنِيفًا مُوَحِّدًا، مُقْبِلًا عَلَيْهِ، مُعْرِضًا عَمَّا سِوَاهُ‏.‏ وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏دَرَجَاتُ الْعَطَشِ‏]‏

‏[‏الدَّرَجَةُ الْأُولَى‏:‏ عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الْعَطَشُ مَعْنَاهُ‏:‏ كِنَايَةٌ عَنْ غَلَبَةِ وَلُوعٍ بِمَأْمُولٍ‏.‏

الْوَلُوعُ بِالشَّيْءِ‏:‏ هُوَ التَّعَلُّقُ بِهِ بِصِفَةِ الْمَحَبَّةِ، مَعَ أَمَلِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ‏.‏

وَقِيلَ فِي حَدِّ الْوَلُوعِ‏:‏ إِنَّهُ كَثْرَةُ تَرْدَادِ الْقَلْبِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ‏.‏ كَمَا يُقَالُ‏:‏ فُلَانٌ مُولَعٌ بِكَذَا، وَقَدْ أُولِعَ بِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ لُزُومُ الْقَلْبِ لِلشَّيْءِ‏.‏ فَكَأَنَّهُ مِثْلُ‏:‏ أُغْرِيَ بِهِ، فَهُوَ مُغْرًى‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ الْعَطَشُ‏.‏ الْأُولَى‏:‏ عَطَشُ الْمُرِيدِ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ‏.‏ أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ‏.‏ أَوْ عَطْفَةٍ تُؤْوِيهِ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ الْمُرِيدُ مَنْ أَهْلِ طَلَبِ الشَّوَاهِدِ عَلَى الِاعْتِبَارِ، وَمُثِيرِ الْعَزَمَاتِ، وَتَعَلُّقِ الْعُبَّادِ بِالْأَعْمَالِ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ شَاهَدٌ يَرْوِيهِ ‏"‏ يَحْتَمِلُ‏:‏ أَنَّهُ مِنَ الرِّوَايَةِ‏.‏ أَيْ يَرْوِيهِ عَمَّنْ أَقَامَهُ لَهُ‏.‏ فَيَكُونُ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى شَوَاهِدِ الْعِلْمِ‏.‏ فَهُوَ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى شَوَاهِدَ يَرْوِيهَا عَنِ الصَّادِقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ، يَزْدَادُ بِهَا تَثْبِيتًا وَقُوَّةَ بَصِيرَةٍ‏.‏ فَإِنَّ الْمُرِيدَ إِذَا تَجَدَّدَتْ لَهُ حَالَةٌ، أَوْ حَصَلَ لَهُ وَارِدٌ‏:‏ اسْتَوْحَشَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بِهَا‏.‏ فَإِذَا قَامَ عِنْدَهُ بِمِثْلِهَا شَاهِدُ حَالٍ لِمُرِيدٍ آخَرَ صَادِقٍ، قَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا‏:‏ اسْتَأْنَسَ بِهَا أَعْظَمَ اسْتِئْنَاسٍ‏.‏ وَاسْتَدَلَّ بِشَاهِدِ ذَلِكَ الْمُرِيدِ عَلَى صِحَّةِ شَاهِدِهِ‏.‏ فَلِذَلِكَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى شَاهِدٍ يَرْوِيهِ عَنِ الصَّادِقِينَ‏.‏

وَيَحْتَمِلُ‏:‏ أَنَّهُ مِنَ الرِّيِّ- فَيَكُونُ مَضْمُومَ الْيَاءِ- يَعْنِي‏:‏ إِذَا حَصَلَ لَهُ الرِّيُّ بِذَلِكَ الشَّاهِدِ‏.‏ وَنَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الْبَارِدِ مِنَ الظَّمْآنِ‏.‏ فَقَرَّرَ عِنْدَهُ صِحَّتَهُ، وَأَنَّهُ شَاهِدُ حَقٍّ‏.‏

وَيُرَجِّحُ هَذَا‏:‏ ذِكْرُ الرَّيِّ مَعَ الْعَطَشِ‏.‏ وَيُرَجِّحُ الْأَوَّلَ‏:‏ ذِكْرُهُ لَفْظَةَ الرِّيِّ فِي قَوْلِهِ ‏"‏ أَوْ عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ ‏"‏ وَالْأَمْرُ قَرِيبٌ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ أَوْ إِشَارَةٍ تَشْفِيهِ ‏"‏ أَيْ تَشْفِي قَلْبَهُ مِنْ عِلَّةٍ عَارِضَةٍ‏.‏ فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ- إِمَّا مِنْ صَادِقٍ مِثْلِهِ، أَوْ مِنْ عَالِمٍ، أَوْ مِنْ شَيْخِ مَسْلَكٍ، أَوْ مِنْ آيَةٍ فَهِمَهَا، أَوْ عِبْرَةٍ ظَفِرَ بِهَا-‏:‏ اشْتَفَى بِهَا قَلْبُهُ‏.‏ وَهَذَا مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ أَوْ إِلَى عَطْفَةٍ تَرْوِيهِ ‏"‏ أَيْ عَطْفَةٍ مِنْ جَانِبِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ، تَرْوِي لَهِيبَ عَطَشِهِ وَتُبَرِّدُهُ‏.‏ وَلَا شَيْءَ أَرَوَى لِقَلْبِ الْمُحِبِّ مِنْ عَطْفِ مَحْبُوبِهِ عَلَيْهِ‏.‏ وَلَا شَيْءَ أَشَدَّ لِلَهِيبِهِ وَحَرِيقِهِ مِنْ إِعْرَاضِ مَحْبُوبِهِ عَنْهُ‏.‏ وَلِهَذَا كَانَ عَذَابُ أَهْلِ النَّارِ بِاحْتِجَابِ رَبِّهِمْ عَنْهُمْ‏:‏ أَشَدَّ عَلَيْهِمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الْجُسْمَانِيِّ‏.‏ كَمَا أَنَّ نَعِيمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ- بِرُؤْيَتِهِ تَعَالَى وَسَمَاعِ خِطَابِهِ وَرِضَاهُ وَإِقْبَالِهِ- أَعْظَمُ مِنْ نَعِيمِهِمُ الْجُسْمَانِيِّ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ عَطَشُ السَّالِكِ إِلَى أَجَلٍ يَطْوِيهِ‏.‏ وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ‏.‏ وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ‏.‏

إِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْأَجَلِ الَّذِي يَطْوِيهِ‏:‏ انْقِضَاءَ مُدَّةِ سِجْنِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، حَتَّى تَصِلَ إِلَى رَبِّهَا وَتَلْقَاهُ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ‏.‏

وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ‏:‏ عَطَشَهُ إِلَى مَقْصُودِ السُّلُوكِ مِنْ وُصُولِهِ إِلَى مَحْبُوبِهِ وَقُرَّةِ عَيْنِهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ‏.‏ فَهُوَ يَطْوِي مَرَاحِلَ سَيْرِهِ حَثِيثًا، لِيَصِلَ إِلَى هَذَا الْمَقْصُودِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إِلَيْهِ سَيْرٌ آخَرُ وَرَاءَ هَذَا السَّيْرِ، مَعَ عَدَمِ مُفَارَقَتِهِ لَهُ‏.‏ فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَصَلَ بِهِ إِلَيْهِ‏.‏ فَلَوْ فَارَقَهُ لَانْقَطَعَ انْقِطَاعًا كُلِّيًّا‏.‏ وَلَكِنْ يَبْقَى لَهُ سَيْرٌ، وَهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، يَسْبِقُ بِهِ السُّعَاةَ‏.‏

وَيُرَجِّحُ هَذَا الْمَعْنَى الثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْمُرِيدَ الصَّادِقَ لَا يُحِبُّ الْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا، حَتَّى يَقْضِيَ نَحْبَهُ، لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى انْقِضَائِهِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الدَّارِ‏.‏ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ‏:‏ أَحَبَّ حِينَئِذٍ الْخُرُوجَ مِنْهَا‏.‏ وَلَكِنْ لَا يَقْضِي نَحْبَهُ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ‏.‏

وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ‏:‏ مُوفٍ قَدْ قَضَى نَحْبَهُ، وَمُنْتَظِرٌ لِلْوَفَاءِ سَاعٍ فِيهِ حَرِيصٌ عَلَيْهِ، وَمُفَرِّطٌ فِي وَفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ‏.‏ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَيَوْمٍ يُرِيهِ مَا يُغْنِيهِ ‏"‏ أَيْ يَوْمٍ يَرَى فِيهِ مَا يُغْنِي قَلْبَهُ، وَيَسُدُّ فَاقَتَهُ مِنْ قُرَّةِ عَيْنِهِ بِمَطْلُوبِهِ وَمُرَادِهِ‏.‏

قَوْلُهُ ‏"‏ وَمَنْزِلٍ يَسْتَرِيحُ فِيهِ ‏"‏ أَيْ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ السَّيْرِ، وَمَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الصَّادِقِينَ، يَسْتَرِيحُ فِيهِ قَلْبُهُ، وَيَسْكُنُ فِيهِ‏.‏ وَيَخْلُصُ مِنْ تَلَوُّنِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ‏.‏ فَإِنَّ الْمَقَامَاتِ مَنَازِلُ وَالْأَحْوَالَ مَرَاحِلُ‏.‏ فَصَاحِبُ الْحَالِ شَدِيدُ الْعَطَشِ إِلَى مَقَامٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ وَيَنْزِلُهُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ ‏[‏الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ‏]‏

قَالَ‏:‏ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابُ عَلَّةٍ‏.‏ وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ‏.‏ وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ‏.‏

عَطَشُ الْمُحِبِّ فَوْقَ عَطَشِ الْمُرِيدِ وَالسَّالِكِ‏.‏ وَإِنْ كَانَ كُلُّ مُحِبٍّ سَالِكًا وَكُلُّ مُرِيدٍ سَالِكًا‏.‏ وَكُلُّ سَالِكٍ وَمُرِيدٍ مُحِبٌّ‏.‏ لَكِنَّ خُصَّ الْمُحِبُّ بِهَذَا الِاسْمِ لِتَمَكُّنِهِ مِنَ الْمَحَبَّةِ، وَرُسُوخِ قَلْبِهِ فِيهَا‏.‏

وَالْمُرِيدُ وَالسَّالِكُ‏:‏ يُشَمِّرَانِ إِلَى عِلْمِهِ الَّذِي رُفِعَ لَهُ، وَوَصَلَ إِلَيْهِ‏.‏ وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْأُولَى‏:‏ لِأَهْلِ الْبِدَايَاتِ‏.‏ وَالثَّانِيَةَ‏:‏ لِلْمُتَوَسِّطِينَ‏.‏ وَالثَّالِثَةَ‏:‏ لِأَهْلِ النِّهَايَاتِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ عَطَشُ الْمُحِبِّ إِلَى جَلْوَةٍ، مَا دُونَهَا سَحَابٌ‏.‏

يُرِيدُ بِالْجَلْوَةِ‏:‏ اسْتِجْلَاءُ الْقَلْبِ لِصِفَاتِ الْمَحْبُوبِ وَمَحَاسِنِهِ، وَانْكِشَافُهَا لَهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ ‏"‏ مَا دُونَهَا سَحَابٌ ‏"‏ أَيْ لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ مِنْ سُحُبِ النَّفْسِ‏.‏ وَهِيَ سُحُبُ الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ بَقَايَا فِي الْعَبْدِ، تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِجْلَائِهِ صِفَاتِ مَحْبُوبِهِ، وَتَعُوقُهُ عَنْهُ‏.‏ فَمَهْمَا بَقِيَ فِي الْعَبْدِ بَقِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهِ، فَهِيَ سَحَابٌ وَغَيْمٌ سَاتِرٌ عَلَى قَدْرِهِ‏.‏ فَكَثِيفٌ وَرَقِيقٌ، وَبَيْنَ بَيْنَ‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏ وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابٌ ‏"‏ الْحِجَابُ فِي لِسَانِ الطَّائِفَةِ‏:‏ النَّفْسُ وَصِفَاتُهَا وَأَحْكَامُهَا‏.‏ وَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ‏.‏ بَلْ هِيَ الْحِجَابُ الْأَكْبَرُ، فَإِنَّ حِجَابَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَاتِهِ هُوَ ‏"‏ النُّورُ‏.‏ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ‏"‏ وَحِجَابُهُ مِنْ عَبْدِهِ‏:‏ هُوَ نَفْسُهُ وَظُلْمَتُهُ، فَلَوْ كَشَفَ عَنْهُ هَذَا الْحِجَابَ لَوَصَلَ إِلَى رَبِّهِ‏.‏

وَالْوُصُولُ عِنْدَ الْقَوْمِ‏:‏ عِبَارَةٌ عَنِ ارْتِفَاعِ هَذَا الْحِجَابِ وَزَوَالِهِ‏.‏ فَالْحِجَابُ الَّذِي يَشْتَدُّ عَلَى الْمُحِبِّ، وَيَشْتَدُّ عَطَشُهُ إِلَى زَوَالِهِ‏:‏ هُوَ حِجَابُ الظُّلْمَةِ وَالنَّفْسِ‏.‏ وَهُوَ الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ‏.‏

وَأَمَّا الْحِجَابُ الَّذِي بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ- وَهُوَ حِجَابُ النُّورِ- فَلَا سَبِيلَ إِلَى كَشْفِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَلْبَتَّةَ‏.‏ وَلَا يَطْمَعُ فِي ذَلِكَ بَشَرٌ‏.‏ وَلَمْ يُكَلِّمِ اللَّهُ بَشَرًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ‏.‏ وَهَذَا الْحِجَابُ كَاشِفٌ لِلْعَبْدِ، مُوصِلٌ لَهُ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْمُ بِمَقَامِ الْمُشَاهَدَةِ، وَالْأَوَّلُ سَاتِرٌ لِلْعَبْدِ، قَاطِعٌ لَهُ، حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِحْسَانِ وَحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ‏.‏

وَالتَّفْرِقَةُ كُلُّهَا عِنْدَهُمْ حُجُبٌ، إِلَّا تَفْرِقَةً فِي اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَلِلَّهِ‏.‏ فَإِنَّهَا لَا تَحْجُبُ الْعَبْدَ عَنْهُ‏.‏ بَلْ تُوَصِّلُهُ إِلَيْهِ‏.‏ فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ وَلَا يُغَطِّيهَا حِجَابُ تَفْرِقَةٍ، فَإِنَّ التَّفْرِقَةَ إِنَّمَا تَكُونُ حِجَابًا إِذَا كَانَتْ بِالنَّفْسِ وَلَهَا‏.‏

قَوْلُهُ‏:‏ وَلَا يُعَرَّجُ دُونَهَا عَلَى انْتِظَارٍ، يَعْنِي‏:‏ لَا يُعَرِّجُ الْمُشَاهِدُ لِمَا يُشَاهِدُهُ عَلَى انْتِظَارِ أَمْرٍ آخَرَ وَرَاءَهَا‏.‏ كَمَا يُعَرِّجُ الْمُحِبُّ الْمَحْجُوبَ عَلَى انْتِظَارِ زَوَالِ حِجَابِهِ‏.‏ وَالْمُرَادُ‏:‏ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مَشْهَدٌ تَامٌّ‏.‏ لَا يَبْقَى لَهُ بَعْدَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ‏.‏

وَهَذَا عِنْدِي وَهْمٌ بَيِّنٌ‏.‏ فَإِنَّهُ لَا غَايَةَ لِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ‏.‏ بِحَيْثُ يَصِلُ الْمُشَاهِدُ لَهَا إِلَى حَالَةٍ لَا يَنْتَظِرُ مَعَهَا شَيْئًا آخَرَ‏.‏

هَذَا‏.‏ وَسَنُبَيِّنُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا مَقَامُ الْمُشَاهَدَةِ أَبَدًا، وَأَنَّ هَذَا مِنْ أَوْهَامِ الْقَوْمِ وَتُرَّهَاتِهِمْ‏.‏ وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ‏:‏ الشَّوَاهِدُ‏.‏ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ قَطُّ فِي الدُّنْيَا إِلَى مُشَاهَدَةِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ‏.‏ وَإِنَّمَا وُصُولُهُ إِلَى شَوَاهِدِ الْحَقِّ‏.‏ وَمَنْ زَعَمَ غَيْرَ هَذَا فَلِغَلَبَةِ الْوَهْمِ عَلَيْهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ‏.‏

وَلِلَّهِ دَرُّ الشِّبْلِيِّ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ مِنْ أَيْنَ لَنَا مُشَاهَدَةُ الْحَقِّ‏؟‏ لَنَا شَاهِدُ الْحَقِّ‏.‏ هَذَا، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّطَحَاتِ الْمَعْرُوفَةِ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ كَلَامِهِ وَأَبْيَنِهِ‏.‏

وَأَرَادَ بِشَاهِدِ الْحَقِّ‏:‏ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْقُلُوبِ الصَّادِقَةِ الْعَارِفَةِ الصَّافِيَةِ‏:‏ مِنْ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَإِجْلَالِهِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، بِحَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ حَاضِرًا فِيهَا، مَشْهُودًا لَهَا، غَيْرَ غَائِبٍ عَنْهَا‏.‏ وَمَنْ أَشَارَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَمَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ‏.‏ وَغَايَتُهُ‏:‏ أَنْ يَكُونَ فِي خِفَارَةِ صِدْقِهِ، وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِ وَعِلْمِهِ‏.‏

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقُلُوبَ تُشَاهِدُ أَنْوَارًا بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهَا‏.‏ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى‏.‏ وَلَكِنَّ تِلْكَ أَنْوَارُ الْأَعْمَالِ وَالْإِيمَانِ وَالْمَعَارِفِ، وَصَفَاءُ الْبَوَاطِنِ وَالْأَسْرَارِ‏.‏ لَا أَنَّهَا أَنْوَارُ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ‏.‏ فَإِنَّ الْجَبَلَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْيَسِيرِ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ حَتَّى تَدَكْدَكَ وَخَرَّ الْكَلِيمُ صَعِقًا، مَعَ عَدَمِ تَجَلِّيهِ لَهُ‏.‏ فَمَا الظَّنُّ بِغَيْرِهِ‏؟‏

فَإِيَّاكَ ثُمَّ إِيَّاكَ وَتُرَّهَاتِ الْقَوْمِ وَخَيَالَاتِهِمْ وَأَوْهَامَهُمْ‏.‏ فَإِنَّهَا عِنْدَ الْعَارِفِينَ أَعْظَمُ مِنْ حِجَابِ النَّفْسِ وَأَحْكَامِهَا‏.‏ فَإِنَّ الْمَحْجُوبَ بِنَفْسِهِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْحِجَابِ‏.‏

وَصَاحِبُ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ وَالْأَوْهَامِ يَرَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ تَجَلَّتْ لَهُ أَنْوَارُهَا‏.‏ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ كَلِيمِ الرَّحْمَنِ‏.‏ فَحِجَابُ هَؤُلَاءِ أَغْلَظُ بِلَا شَكٍّ مِنْ حِجَابِ أُولَئِكَ‏.‏ وَلَا يُقِرُّ لَنَا بِهَذَا إِلَّا عَارِفٌ قَدْ أَشْرَقَ فِي بَاطِنِهِ نُورُ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ‏.‏ فَرَأَى مَا النَّاسُ فِيهِ‏.‏ وَمَا أَعَزَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا‏.‏ وَمَا أَغْرَبَهُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

فَالصَّادِقُونَ فِي أَنْوَارِ مَعَارِفِهِمْ وَعِبَادَاتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ لَيْسَ إِلَّا‏.‏ وَأَنْوَارُ ذَاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ مَقَاطِعِ الطَّرِيقِ، وَلِلَّهِ كَمْ زَلَّتْ فِيهِ أَقْدَامٌ‏!‏ وَضَلَّتْ فِيهِ أَفْهَامٌ‏!‏ وَحَارَتْ فِيهِ أَوْهَامٌ‏!‏ وَنَجَا مِنْهُ صَادِقُ الْبَصِيرَةِ، تَامُّ الْمَعْرِفَةِ، عِلْمُهُ مُتَّصِلٌ بِمِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ‏.‏ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ‏:‏ مَنْزِلَةُ الْوَجْدِ

وَمِنْ مَنَازِلِ ‏"‏ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ‏"‏ مَنْزِلَةُ الْوَجْدِ

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ‏:‏ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا‏.‏ وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ‏.‏ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ- بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ- كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ‏.‏

وَقَدِ اسْتَشْهَدَ صَاحِبُ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَهْلِ الْكَهْفِ ‏{‏وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا‏}‏ وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِدْلَالِ وَالِاسْتِشْهَادِ‏.‏ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا بَيْنَ قَوْمِهِمُ الْكُفَّارِ فِي خِدْمَةِ مَلِكِهِمُ الْكَافِرِ‏.‏ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالتَّوْفِيقِ‏.‏ وَذَاقُوا حَلَاوَتَهُ‏.‏ وَبَاشَرَ قُلُوبَهُمْ‏.‏ فَقَامُوا مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِمْ، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ الْآيَةَ‏.‏

وَالرَّبْطُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏:‏ يَتَضَمَّنُ الشَّدَّ عَلَيْهَا بِالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ، وَتَقْوِيَتَهَا وَتَأْيِيدَهَا بِنُورِ الْإِيمَانِ، حَتَّى صَبَرُوا عَلَى هِجْرَانِ دَارِ قَوْمِهِمْ، وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ خَفْضِ الْعَيْشِ‏.‏ وَفَرُّوا بِدِينِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ‏.‏

وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ مَعْنَاهُ‏:‏ عَكْسُ الْخِذْلَانِ‏.‏ فَالْخِذْلَانُ حَلَّهُ مِنْ رِبَاطِ التَّوْفِيقِ‏.‏ فَيَغْفُلُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ‏.‏ وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَيَصِيرُ أَمْرُهُ فُرُطَا‏.‏

وَالرَّبْطُ عَلَى الْقَلْبِ‏:‏ شَدُّهُ بِرِبَاطِ التَّوْفِيقِ‏.‏ فَيَتَّصِلُ بِذِكْرِ رَبِّهِ‏.‏ وَيَتَّبِعُ مَرْضَاتَهُ‏.‏ وَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ شَمْلُهُ‏.‏ فَلِهَذَا اسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَقَامِ الْوَجْدِ‏.‏

وَالشَّيْخُ جَعَلَ مَقَامَ الْوَجْدِ غَيْرَ مَقَامِ الْوُجُودِ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْقَوْمِ هُوَ الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ‏.‏ وَالْوَجْدُ هُوَ مَا يُصَادِفُ الْقَلْبَ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ وَارِدَاتِ الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَتَوَابِعِ ذَلِكَ‏.‏ وَالْمَوَاجِيدُ عِنْدَهُمْ فَوْقَ الْوَجْدِ‏.‏ فَإِنَّ الْوَجْدَ مُصَادَفَةٌ‏.‏ وَالْمَوَاجِيدَ ثَمَرَاتُ الْأَوْرَادِ‏.‏ وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الْأَوْرَادُ قَوِيَتِ الْمَوَاجِيدُ‏.‏

وَ ‏"‏ الْوُجُودُ ‏"‏ عِنْدَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ‏.‏ وَهُوَ الظَّفَرُ بِحَقِيقَةِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ خُمُودِ الْبَشَرِيَّةِ‏.‏ وَانْسِلَاخِ أَحْكَامِ النَّفْسِ انْسِلَاخًا كُلِّيًّا‏.‏

قَالَ الْجُنَيْدُ‏:‏ عِلْمُ التَّوْحِيدِ مُبَايِنٌ لِوُجُودِهِ، وَوُجُودُهُ مُبَايِنٌ لِعِلْمِهِ‏.‏

وَلَا يُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ‏:‏ الْمُخَالَفَةَ وَالْمُنَاقَضَةَ‏.‏ فَإِنَّهُ يُطَابِقُهُ مُطَابَقَةَ الْعِلْمِ لِلْمَعْلُومِ‏.‏

وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِالْمُبَايَنَةِ‏:‏ أَنَّ حَالَ الْمُوَحِّدِ وَذَوْقَهُ لِلتَّوْحِيدِ، وَانْصِبَاغَ قَلْبِهِ بِحَالِهِ‏:‏ أَمْرٌ وَرَاءَ عِلْمِهِ بِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِهِ‏.‏ وَالْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُبَايَنَةِ بَيْنَ عِلْمِ الشَّوْقِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَنَحْوِهَا، وَبَيْنَ حَقَائِقِهَا وَمَوَاجِيدِهَا‏.‏

فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ‏.‏ أَضْعَفُهَا التَّوَاجُدُ وَهُوَ نَوْعُ تَكَلُّفٍ وَتَعَمُّلٍ وَاسْتِدْعَاءٍ‏.‏

وَاخْتَلَفُوا فِيهِ‏:‏ هَلْ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ أَمْ لَا‏؟‏ عَلَى قَوْلَيْنِ‏.‏

فَطَائِفَةٌ قَالَتْ‏:‏ لَا يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ‏.‏ وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ، لِمَا فِيهِ مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّصَنُّعِ الْمُبَايِنِ لِطَرِيقِ الصَّادِقِينَ‏.‏ وَبِنَاءُ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى الصِّدْقِ الْمَحْضِ‏.‏

وَطَائِفَةٌ قَالَتْ‏:‏ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِهِ إِذَا كَانَ قَصْدُهُ اسْتِدْعَاءَ الْحَقِيقَةِ، لَا التَّشَبُّهَ بِأَهْلِهَا‏.‏ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَقَدْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَا بَكْرٍ يَبْكِيَانِ فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ، وَمَا قَبِلُوا مِنْهُمْ مِنَ الْفِدَاءَ‏:‏ أَخْبِرَانِي مَا يُبْكِيكُمَا‏؟‏ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بِكَيْتُ، وَإِلَّا تَبَاكَيْتُ‏.‏ وَرَوَوْا أَثَرًا ابْكُوا؛ فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالتَّكَلُّفُ وَالتَّعَمُّلُ فِي أَوَائِلِ السَّيْرِ وَالسُّلُوكِ لَا بُدَّ مِنْهُ‏.‏ إِذْ لَا يُطَالَبُ صَاحِبُهُ بِمَا يُطَالَبُ بِهِ صَاحِبُ الْحَالِ‏.‏ وَمَنْ تَأَمَّلَهُ بِنِيَّةِ حُصُولِ الْحَقِيقَةِ لِمَنْ رَصَدَ الْوَجْدَ لَا يُذَمُّ‏.‏ وَالتَّوَاجُدُ يَكُونُ بِمَا يَتَكَلَّفُهُ الْعَبْدُ مِنْ حَرَكَاتٍ ظَاهِرَةٍ ‏"‏ وَالْمَوَاجِيدُ ‏"‏ لِمَنْ يَتَأَوَّلُهُ مِنْ أَحْكَامٍ بَاطِنَةٍ‏.‏

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ الْمَوَاجِيدُ، وَهِيَ نَتَائِجُ الْأَوْرَادِ وَثَمَرَتُهَا‏.‏

الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ الْوَجْدُ وَهُوَ ثَمَرَةُ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، مِنَ الْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ، كَمَا جَعَلَهُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَرَةَ كَوْنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا‏.‏ وَثَمَرَةَ الْحُبِّ فِيهِ، وَكَرَاهَةَ عَوْدِهِ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ‏.‏ فَهَذَا الْوَجْدُ ثَمَرَةُ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْقَلْبِيَّةِ، الَّتِي هِيَ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ‏.‏

الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ الْوُجُودُ وَهِيَ أَعْلَى ذُرْوَةِ مَقَامِ الْإِحْسَانِ‏.‏ فَمِنْ مَقَامِ الْإِحْسَانِ يَرْقَى إِلَيْهِ‏.‏ فَإِنَّهُ إِذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ مُشَاهَدَةُ مَعْبُودِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَرَاهُ- وَتَمَكَّنَ فِي ذَلِكَ- صَارَ لَهُ مَلَكَةً أَخْمَدَتْ أَحْكَامَ نَفْسِهِ، وَتَبَدَّلَ بِهَا أَحْكَامًا أُخَرَ، وَطَبِيعَةً ثَانِيَةً، حَتَّى كَأَنَّهُ أُنْشِئَ نَشْأَةً أُخْرَى غَيْرَ نَشْأَتِهِ الْأُولَى، وَوُلِدَ وِلَادًا جَدِيدًا‏.‏

وَمِمَّا يُذْكَرُ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَنْ تَلِجُوا مَلَكُوتَ السَّمَاءِ حَتَّى تُولَدُوا مَرَّتَيْنِ‏.‏

سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ‏.‏ وَيُفَسِّرُهُ بِأَنَّ الْوِلَادَةَ نَوْعَانِ‏.‏ أَحَدُهُمَا‏:‏ هَذِهِ الْمَعْرُوفَةُ، وَالثَّانِيَةُ‏:‏ وِلَادَةُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَخُرُوجُهُمَا مِنْ مَشِيمَةِ النَّفْسِ، وَظُلْمَةِ الطَّبْعِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَهَذِهِ الْوِلَادَةُ لَمَّا كَانَتْ بِسَبَبِ الرَّسُولِ كَانَ كَالْأَبِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ‏"‏ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ ‏"‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَالْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ‏}‏ إِذْ ثُبُوتُ أُمُومَةِ أَزْوَاجِهِ لَهُمْ‏:‏ فَرْعٌ عَنْ ثُبُوتِ أُبُوَّتِهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ فَالشَّيْخُ وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُؤَدِّبُ أَبُ الرُّوحِ‏.‏ وَالْوَالِدُ أَبُ الْجِسْمِ‏.‏

وَيُقَالُ فِي الْحُبِّ وَجْدٌ، وَفِي الْغَضَبِ مُوْجِدَةٌ، وَفِي الظَّفَرِ وِجْدَانٌ وَوُجُودٌ‏.‏